ويعتبر هذا المؤلف من الحجم الكبير حيث يحتوي على 566 صفحة. ويشتمل على تمهيد ومقدمة وعلى بابين كبيرين تناول فيهما مؤلفه «يوميات الحجر الصحي الشامل» يوما بيوم وعددها خمسة وثمانون (85 يوما) وهي كما ذكر المؤلف «وصفا يوميا ومتابعة لأيام الموجة الأولى من وباء الكورونا» في إطار ملاحظة حينية ورصد تطورات الوضع الوبائي في تونس على امتداد الفترة التي غطت هذا العمل (22 مارس -14 جوان 2020) الذي نشر في البداية في وقت متأخر من سهرة كل يوم على صفحة المؤلف الخاصة على وسيلة التواصل الاجتماعي «فايس بوك». اتخذ المؤلف موقف الشاهد والمخبر على مرحلة دقيقة من التاريخ الآني للبلاد التونسية، ولذلك لا تبدو مهمة كتابة مسار الأحداث اليومية المتغيرة بتغير مدى انتشار الوباء وتداعيات ذلك على الوضع العام في تونس وفي العالم بأسره هيّنة لأن المؤرخ يكتب والأحداث الناجمة عن انتشار الوباء لا تزال جارية ومسارها لم ينته بعد شأنه في ذلك شأن المؤرخ الذي يكتب زمن الحرب في أوج اشتعالها. ولئن ورد الكتاب للتأريخ لليومي لتونس زمن الكورونا، فهو يندرج كذلك من الناحية المنهجية والعلمية ضمن مقاربة التاريخ الشامل لاهتمام المؤلف بقضايا متداخلة تهم مختلف مظاهر حياة البشر الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والثقافية والدينية ويتناول مسائل تتعلق بالأنثروبولوجيا التاريخية وتاريخ الذهنيات والتعامل مع الواقع المعيش وتشعباته في مختلف مظاهره على جميع المستويات من الجزء إلى الكل.
وهكذا يندرج كتاب «تونس زمن الكورونا – يوميات الحجر الصحي الشامل (22 مارس- 14 جوان 2020») في إطار الدراسات التي تهتم بالتاريخ اليومي أو تاريخ الزمن الحاضر وله خصوصيته وأدواته ومادته التي ترتكز على معطيات الواقع اليومي المعاش بالاعتماد على عدة مصادر أبرزها الصحف والنشرات اليومية في الإذاعات والقنوات التلفزية والمواقع الإلكترونية. وقد تعامل المؤلف مع مختلف المعطيات التي نشرتها تلك المصادر بحرفية المؤرخ من حيث اعتماد مقارنة المعطيات المصدرية المتنوعة الخاصة بأعداد ضحايا الوباء ومدى انتشاره الجغرافي على المستويين الوطني والعالمي خلال نفس اليوم ويتطلب ذلك متابعة حينية لمجريات الأحداث. وقد قدم الأستاذ الحبيب القزدغلي في الجزء المخصص للتمهيد بهذا المؤلف (ص. 6-11) لمحة عن تاريخ الأوبئة بالبلاد التونسية منذ العهد الحديث معتمدا مصدرا مهما وهو كتاب «الإتحاف» لابن أبي الضياف ومقارنة ذلك بما حدث بتونس في التاريخ الآني وكيفية التعامل معها على المستويين الرسمي والعام في إطار الثابت والمتحول في سلوكات التونسيين بين الأمس واليوم. وتميز أسلوب المؤلف في هذا الجزء من الكتاب بنقده لطريقة تعامل أهل العلم والمعرفة مع الأوبئة «بالاعتماد على فكرة المصلحة واستفادة أصحاب العقل وأهل العلم لنشر معارفهم والاستئناس بما علموه من تجارب غيرهم»، مقابل ظاهرة التسليم بالأمر الواقع بسبب طبيعة الثقافة الموروثة أو قلة الوعي بأخطار الوباء.
ولم يتوقف الأستاذ حبيب القزدغلي عند تناوله للأوبئة ومدى تأثيرها على السلوكيات العامة عند المجال الجغرافي التونسي بل قارن سلوكات التونسيين بغيرهم من مجتمعات البلدان المتقدمة بأمريكا وأوروبا ودعا إلى حتمية المشاركة في الحرب على الكورونا. وأما المقدمة (ص. 12-16) فقد تناول عبرها المؤلف دواعي نشر هذا الكتاب في الوقت الحالي رغم التطورات التي عرفتها جائحة كورونا في البلاد التونسية وفي العالم بعد مرور الموجة الأولى التي كان خلالها عدد ضحايا الوباء أقل بكثير من الموجات الأخرى حيث يقول الأستاذ حبيب القزدغلي إنه «لا مجال للمقارنة بين أرقام الفترة الأولى التي بلغ فيها عدد الوفيات إلى 50 وفاة وبين الأرقام المفزعة التي وصلت إليها أرقام الوفيات والإصابات على المستويين اليومي والعام» وقد برر المؤلف أهمية المقارنة من خلال ما تثيره هذه الأخيرة من تساؤل حول «الفارق الواضح في التعامل مع الجائحة وسلوك الدولة والمجتمع تجاهها». وبالتعمق في قراءة الكتاب يبدو المضمون أكثر عمقا فهو يتجاوز الأرقام ليبرز دور الإنسان كفاعل في اللحظة التاريخية المهمة وهنا تكمن وظيفة الإطارات الطبية على اختلاف أصنافها من أطباء وإطارات شبه طبية وغيرهم من خلال التجنّد لمقاومة الوباء فتعدد الفاعلون من مهنيي الطب وسياسيين في الحكومات المتعاقبة والمعارضة ونشطاء المجتمع المدني الذي كان لهم دور مهم جدا في الحد من تأثيرات الوباء على حياة السكان بصفة عامة. وتعددت كذلك المفاهيم المستعملة مثل «الكرنتينة» و»الحجر الصحي الشامل والموجه»، و»الجيش الأبيض» وقد وضعها الأستاذ حبيب القزدغلي في إطارها التاريخي لتحديد معناها وظروف اعتمادها عبر التاريخ. كما اعتمد المؤلف في تقسيم البابين المتوازنين من حيث المادة وعدد اليوميات منهجية كرونولوجية (زمنية) حيث ورد الباب الأول تحت عنوان «الحجر الصحي الشامل» 22 مارس-03 ماي 2020
(ص. 17 - 254) وتعرض فيه المؤلف إلى أوضاع البلاد أثناء تلك الفترة مبرزا مظاهر تطور وتصاعد عدد الإصابات بالوباء في تونس من 75 إلى 89 إصابة خلال اليوم الأول من الحجر الصحي الشامل بتاريخ 22 مارس 2020 (ص. 23) إلى 1013 حالة مؤكدة في اليوم الأخير من الحجر الصحي الشامل 03 ماي 2020 (ص. 249). والمهم في هذه المعطيات ليس الأرقام في حد ذاتها بل كيفية تفاعل السلطات التونسية خاصة في مجال الصحة لمواجهة الأخطار ومدى تفاعل مختلف مكونات المجتمع التونسي مع الواقع الجديد في مختلف جهات البلاد وهو ما توقف عنده المؤلف في هذا الكتاب. ولم يتوقف الأستاذ الحبيب القزدغلي في كتابة اليوميات عند نشر عدد الإصابات وتطورها من يوم إلى آخر بل تعرض بعمق لدراسة تطور عدد الوفيات الجملي من جراء وباء كورونا في تونس خلال فترة الحجر الصحي الشامل حيث مر العدد من 04 وفيات إلى حدود اليوم الثالث إلى 42 حالة وفاة في 03 ماي 2020. وأما الباب الثاني فهو يحمل عنوان «الحجر الصحي الموجّه» من يوم 04 ماي إلى 14 جوان 2020 (ص. 255 - 562) حيث تعرض خلاله المؤلف لمتابعة« الحجر الصحي الموجّه»
من حيث تطور عدد الإصابات بوباء كورونا في تونس وفي العالم وقد مر عدد المصابين في تونس من 05 إصابات جديدة بتاريخ 04 ماي 2020 (ص. 257) إلى حالتي إصابة وافدتين من ضمن التونسيين الذين تم إجلاؤهم والمقيمين في مراكز الحجر الصحي الإجباري (ص. 555). كما تعرض المؤلف إلى طبيعة السياسة المعتمدة خلال مرحلة الحجر الصحي الموجه وقارن الوضع الوبائي في تونس ببقية بلدان العالم وكيفية معالجة هذه الجائحة من قبل حكومات الدول الكبرى على وجه الخصوص. وهنا تكمن طرافة هذا العمل وجديته ورهاناته الكبيرة إذ يمثل مصدرا مهما للبحوث في التاريخ الاجتماعي ويساهم بدرجة كبيرة في توفير مادة ثرية للبحث فهو عبارة عن وثيقة مصدرية ومرجع في الآن ذاته للمختصين في العلوم الإنسانية والاجتماعية على حد السواء. وهو يمثّل كذلك في نظرنا نتاجا لجهد كبير بذله الأستاذ حبيب القزدغلي في تجميع المعطيات المتنوعة والثرية وتحليلها ووضعها في إطار شامل إضافة علميّة ومعرفيّة قيّمة في التّاريخ الآني من شأنها أن تساهم بصفة كبيرة في إثراء المكتبة التاريخية التّونسيّة وفي مزيد التعمق في دراسة مثل هذه المواضيع من التاريخ الاجتماعي في تونس وفي العالم في المستوى الأكاديمي على وجه الخصوص.
بقلم: المنصف باني
أستاذ وباحث في المعهد العالي لتاريخ تونس المعاصر-جامعة منوبة