مختلف «قاعة العروض بسجن برج الرومي» وأمام جمهور مختلف «النزلاء» عرض الفيلم الذي اثار جدلا كبيرا فيلم «ريش» للمخرج عمر الزهيري.
«ريش» مساحة سينمائية مبهرة تفكك الهامش وتنصت الى آلام المهمشين عبر الصورة، فيلم يتميز بقوة الصورة وجرأتها امام قلة الكلمات ومساحة الحوار، هو التجربة الروائية الاولى لعمر الزهيري في الافلام الروائية الطويلة انتاج العام 2021 ومن تمثيل مواطنين لم يخبروا الركح او يعرفوا عوالم التمثيل سابقا وهم دميانا نصار المتحصلة على جائزة افضل ممثلة وسامي بسيوني ومحمد عبد الهادي وفادي مينا وتحصل الفيلم على التانيت الذهبي لايام قرطاج السينمائية.
توليفة سينمائية مقنعة تطرح موضوع الهامش
تنقل الصورة ما تعجز عنه آلاف الجمل والكلمات، تكتب الكاميرا قصص النساء وصبرهنّ وتنتصر للهامش والمهمشين وتكون صوت أحلامهم الصغرى وآمالهم البسيطة كرغيف خبز او يوم مشمس دون غبار او هواء نقي وسط الكثير من العشوائيات.
في مكان ما غير محدد وزمن هو الآخر مطلق تدور أحداث الفيلم، مكان يمكن إسقاطه على كل الدول العربية والافريقية وكل مكان على البسيطة لازال سكانه يعيشون على هامش الحياة و المنظومة المجتمعية والمالية، في مكان فقير جدا تدور أحداث الفيلم، الذي جمع العبث بالفانتازيا لتقديم أيقونة سينمائية تشعر المتفرج انه مكبّل بأصفاد الخوف والأرق والسؤال «لم كل هذا الوجع بيننا؟ أين انسانيتنا؟ أين سلطاتنا؟ وأي بشر نحن لنشاهد المهمشين وهم يصارعون اليومي ونطيل إليهم النظر وأحيانا نكتفي بتحية شفقة؟».
«ريش» فيلم «يرجّ»، فيلم يدكّ كل المسلّمات والبديهيات، نقلة بالكاميرا يبدع في كتابتها عمر الزهيري بنص بسيط وكلمات محدودة إذ يترك المساحة كاملة للعيون لتنقل كل الوجع وتختصره في النظرات، يترك للكاميرا حرية الاقتراب من ملامح الوجه التي صفعها الزمن والفقر والغبار لتتحدث عن معاناة كل فقراء العالم ومهمشيه، تتيح مساحة كبرى للأحلام المؤجلة والآمال المجهضة لترسم على تشققات الأيادي وانحناءات الظهر فالمخرج استعمل اخطر الأسلحة وهي الصورة ليربك المتفرج ويدفعه عنوة ليكون جزءا من فيلمه.
«ريش» هو عنوان الفيلم، منذ العنوان يقدم المخرج الكثير من التناقضات التي ستتابع داخله، ريش هو الشيء الخفيف الوزن لكن في الفيلم يصبح الريش ثقيلا ومتعبا، يتعب الزوجة وينهك الاولاد، ففي الفيلم واثناء الاحتفال بعيد ميلاد احد الأبناء يقدم الساحر فقراته المضحكة والمبهرة ومن الفقرات يدخل الزوج داخل الصندوق يحوّله الساحر إلى دجاجة ويعجز عن إرجاعه إلى طبيعته البشرية فتترك الدجاجة بريشها للزوجة لتتحمل المسؤولية في البحث عن الساحر والاهتمام بالزوج الدجاجة وإيجاد الدواء وتوفير مصاريف البيت جميعها مسؤوليات ثقيلة سببها ريشة.
ينطلق الفيلم بصرخة ورجل يحترق، الصرخة تصم الآذان وكأنها توقظ ضمائر المتفرجين وموتى القلوب لينتبهوا الى محيطهم ويشاهدوا القبح والبشاعة غير البعيدين، من المتناقضات المربكة في الفيلم كل من الطفلين مشوه بالغبار والدخان ينظران الى رجل ينزف دما وفي الوقت نفسه ترتفع موسيقى الصور المتحركة الشهيرة «توم وجيري» وكأننا بالمخرج يخبرنا ان الأطفال لا يتمتع جميعهم بطفولتهم ويزرعون أحلامهم الصغيرة.
«ريش» تركيبة سينمائية توغل في توصيف الهامش وإخراج القبح الموجود حولنا، جولة بالكاميرا في فضاءات غير محددة مكانية لكنها موجودة فعلا، رحلة بتقنيات سينمائية عالية الجودة، مزج بين العبثي والواقعي انتقال سلس من الحبكة السردية الى الحوار، تداول بين الدرامي والفانتازم ، مزج غريب بين الصورة والموسيقى لتقديم فيلم يرشح بالصدق ويسلط الضوء على انسانية مسروقة.
«ريش».. النساء قادرات على صناعة المستحيل
مائة واثنتي عشرة دقيقة من السؤال والألم، قرابة الساعتين عانت فيها الشخصية من صراعات نفسية ومجتمعية للبقاء، 112دقيقة هي المدة التي صاحبت فيها الكاميرا، ساعة واثنتي واربعين دقيقة تسكن المتفرج بالإحساس بالألم والضيق، إحساس يتشارك فيه المتفرج مع الشخصية الرئيسية، امراة تعاني من زوج متسلّط اولا، ثمّ تصبح المسؤولة عن العائلة الصغيرة وخلاص اجر البيت في غيابه، امرأة صامتة، تتكلم نادرا لكنها توغل في الحديث بعينيها ونظراتها، تخترق قلب المتفرج وتحمله إلى عوالمها ليشعر بمعاناتها ويكون هو الآخر جزءا منها.
امرأة صامدة وصامتة تبحث عن الحلول للحفاظ على حياة أبنائها في مكان موغل في الوحشية والاستغلال، شخصية يكتبها المخرج بكل تفاصيلها وينحت ملامح الحزن والتفكير ويزرعها بالسؤال والخوف، مشاهد متعددة تحاول بطلتها، تحاول فيها الخروج من وضع الضحية (صنعها المجتمع والزوج والهامش والعقلية الجماعية) الى وضعية السيادة (تبحث عن الهمل، تحاول البحث عن الساحر، تتعرف إلى مجتمع جديد وتخرج من البيت للمرة الأولى، تبحث عن حلول للمشاكل المتراكمة التي تركها الزوج)، تصنع ذاتها تدريجيا تسلح نفسها بالقوة والجرأة لتثبت ان ذاك الكيان الذي اسمه امرأة لا تهزم.
في الفيلم تماه غريب بين صورة المكان ووجه المرأة، تماه بين لون الغبار المائل الى الصفرة وملامحها الشاحبة، كلاهما يحتاج الماء للارتواء، الأرض تحتاج ماء المطر وهي تحتاج ماء العاطفة و الحب لتزهر، في المشاهد المتعددة تلتقط كاميرا عمز الزهيري وكمال سامي ‹المشرف على التصوير) التفاصيل الصغيرة لتتوالد منها مشاهد سينمائية جميلة رغم قبح موضوعها وبشاعتها، بالكاميرا تحوّل تلك البشاعة الى صورة سينمائية متسلسلة ويشتغل على توليد جماليات المشهد السينمائي من القبح والوحشية السحيقة، وجه المرأة وحركاتها وطريقتها في النطق والمواجهة تصنعان منها كوميديا سوداء مدروسة فلا وجود لمشهد يمكن الاستغناء عنه، جميعها موظفة جيدا ودميانا نصار أتقنت جيدا الدور وكانت حقيقية إلى حدّ الصدق فهي امرأة تعرف جيدا معنى أن تعاني المرأة وتشعر بالضيم والوجع.
الإطار المكاني للاحداث عادة ما يكون ضيقا ومحددا لترك المجال للمثل ليبدع امام الكاميرا في تقمص الحالات النفسية للشخصية، اغلب المشاهد للشخصية الرئيسية تكون في فضاءات ضيقية لتتبع الكاميرا كل سكناتها، حتى طريقة التنفس توحي بالحدث المقبل، توغل الكاميرا في النبش في نفسية الشخصية وإخراج مابداخلها من الم تكتمه لسنوات وخوف تخبئه لسنين وأحلام أجلتها طويلا في رحلة بحثها عن الحياة، لتقرر فجأة التمرد على كل الموجود وتغيير واقعها بقتل الزوج وذبح الدجاجة والاحتفال مع الابناء بـ»البيتزا» و»البطاطس المقلية» والمشروبات والحلويات التي يحبها الأطفال لتطوي نهائيا مرحلة تقشف الزوج «اطبخي باذنجان ليومين» ومشهد احتفاء الأطفال بالأكل الجديد يكون مشهد النهاية للفيلم ومشهد لأحلام جديدة تصنعها الشخصية وسط كل ذاك الظلام المحيط بها، فالنساء صانعات الأمل دوما.
فيلم «ريش» لعمر الزهيري ضمن اختتام أيام قرطاج السينمائية في السجون: السينما التزام بقضايا من هم تحت خطّ الحياة
- بقلم مفيدة خليل
- 09:54 09/11/2021
- 686 عدد المشاهدات
توفر السينما مساحة للحلم والنقد، تصنع السينما عوالم مختلفة بعضها يوغل في القبح وأخرى تنتصر للإنسان، في فضاء سينمائي