.فليس من الغريب أن تكتب الشاعرة والكاتبة حفيظة قارة بيبان قصائدها وقصصها ورواياتها بروح التمرد والمقاومة وبنفس الشاعرية المفعمة بالإحساس والجمال. في حوارها لـ «المغرب» باحت «ابنة البحر» ببعض من ذكريات الطفولة ومسيرة الكتابة وهواجس الأدب والمرأة...
• هل لك أن تعرفي القارئ بالمسيرة الحياتية والمسيرة الأدبية لحفيظة قارة بيبان؟
كيف لي أن أفصل بينهما؟ وأحكي عن الحياة وعن الأدب ، كل على حدة؟ بالنسبة لي الحياة هي الأدب، والأدب هو الحياة. يكفي أن أستعيد بعض ومضات من ذاكرة الصبا لتلخص ذلك: مكتبتنا الزاخرة بمختلف الكتب، في الأدب خاصة، و التي كانت منجمي وملجئي منذ أيام الطفولة، أنبش فيها عن أحلى الحكايات والأشعار وأسافر معها إلى عوالم الخيال والجمال... أمي، قارئة للقرآن كلما جلست عشية بعد واجبات البيت، وهي تنشد لي ـ بكل تأثر وبصوت راشح بالشجن، قصيد العصفور السجين... أبي العائد عند الزوال من التدريس بالجريدة في يده وتسابقنا راكضين إلى الباب أنا وأخي فتحي، لاختطاف الجريدة. كنا نتخاصم لأجل الجريدة. حلمي الوحيد- طفلة- بأن أكون أديبة.
وقد مضيت في درب الكتابة والحياة، أجاهد كي لا تمزقني الواجبات، الدراسة (في مرحلة أولى في الأدب العربي) الأمومة، التدريس، أقاوم كل الصعاب كي يظل الأدب منارتي.
أسقط أحيانا ولكن كطائر الفينيق ، أنهض من جديد.... تواصلت المسيرة بعدها، مع الأسفار والملتقيات في تونس وخارجها.ترجمت بعض أعمالي إلى الفرنسية والصينية والانقليزية وكتبت عنها عديد الأطروحات الجامعية ، كما حصدت الجوائز..تنوعت الكتابات من القصة إلى الرواية إلى السيرة الذاتية إلى قصص الأطفال. . ولكن، هل رويت؟ ما زال العطش والشغف يستبد بي، لأسافر بعيدا في عوالم اللغة وأقطف المشتهى..هل مازال في الأيام متسع؟.. هل ما زالت الصحة ريانة صامدة ؟..في عالم تتناهشه الأوبئة الظاهرة والخافية وتسمم هواءه حرائق الإنسان للإنسان؟.
• مع هذه التجربة الأدبية الزاخرة، ماذا عن النشاط الثقافي؟
في ما مضى، كنت أعتقد أن الكتابة الأدبية كافية لرصد وفضح الواقع المتردي ومقاومته من خلال خلق فني متكامل. ولكن في الآن نفسه كنت أدرك حاجة المشهد الثقافي التونسي إلى الخروج من النمطية وتجديد الرؤى ، ليكون التغيير الحقيقي من خلال الثقافة.
كانت البداية في نادي القصة ثم في اتحاد الكتاب التونسيين الذي انسحبت منه بعد خيبات-في جمعيةأحباء المكتبة والكتاب ببنزرت وجدت الفرصة ، مع هيئة متجانسة من أساتذة العربية لتحقيق أنشطة مبتكرة ترغب أكثر في الكتاب.أذكرمنها تجربة «قصة ونغم» مع الفنان عادل بوعلاق،في المعاهد وفضاء المكتبة، تقدم فيها قصة تونسية موسيقيا بعد قراءة معبرة-
أعتز بأني كنت صاحبة فكرة وبرنامج التظاهرة العربية الكبرى «لن ننسى» التي تم فيها إحياء الذكرى الثلاثين لقدوم المقاتلين الفلسطينيين المهجرين من حرب بيروت صائفة 1982 انطلقت التظاهرة الثقافية في 28 أوت 1912بأنشطة متنوعة في الشارع والميناء والقاعات وبحضور أم جهاد وبعض من جاؤوا في باخرة التهجيرم وعديد الأدباء والنقاد..كان الأمل أن تتجدد التظاهرة كل عام مع قضايا الحرية في أوطاننا العربية. ولكن قصر نظر الإداريين حال دون ذلك.
انضمامي لرابطة الكتاب الأحرار التي استعادت حقوقها بعد 2011 وبعث فرع الرابطة ببنزرت الذي توليت رئاسته، أعاد لي الحماسة لتطوير العمل الثقافي من خلاله، وتقديم الجديد ورفع شعار «إنقاذ البلاد بالثقافة» شعار فرع الرابطة ببنزرت- أهم مشروع بعثناه مع «مسرح الكلمات» هو الملتقى الدولي للرواية العربية ببنزرت – والذي أعتز بكونه أول ملتقى دولي للرواية بالشمال التونسي ، لفت إليه الأنظار من البداية لاختلافه وتنوع أنشطته الجامعة لمختلف الأجيال. وقد وصل إلى دورته الرابعة . كما أصدرنا كتابا بأعمال الدورتين الأولى والثانية بعنوان «التاريخ والسياسة والعنف في الرواية العربية الحديثة» . من المشاركين فيه الروائي الكبير واسيني الأعرج- ونحن نستعد لإصدار كتاب بأعمال الدورة الثالثة، هذه الدورة الذي تم فيها تكريمي بصفتي مؤسسة الملتقى الدولي للرواية.
• كيف جئت إلى عالم القصة والرواية؟
قد يكون التوق إلى الحرية وإلى كسر أسوار الواقع المقيت والطيران إلى عوالم أخرى أبدعها، أعلن فيها تمردي وأعلي فيها قيم الجمال الأصيلة الضائعة، هو الذي أخذني لأكتب القصة القصيرة دون أن يغيب فيها الشعر الذي سكن البدايات.
• هذا ما جعل إصداراتك متنوعة. لو تحدثينا عنها؟
كتابي البكر كان مجموعة قصصية بعنوان «الطفلة انتحرت» صدر عن الدار العربية للكتاب التي مثلت وقتها تجربة فريدة في مجال النشر المشترك بين تونس وليبيا. تلاه كتابي الشعري « رسائل لا يحملها البريد» الذي كتب تقديمه الأديب محمد العروسي المطوي.
صدرت بعدها مجموعتي القصصية « في ظلمة النور «عن منشورات قصص بتوصية من وزارة الثقافة، وقد اختيرت منها قصتان ترجمتا إلى الصينية في مختارات عن أدب المرأة العربية للمستشرقة لن تشن. توالت بعدها أعمالي بتجارب متنوعة، فكانت السيرة الذاتية والشعر في «أجمل الفضائح» ثم الرواية في «دروب الفرار» التي حصدت جائزتين في تونس (الكومار الذهبي وجائزة الكريديف) وطبعت في نفس السنة مرتين عن دار سيراس وصدرت عن دار كنعان في سوريا في 3 طبعات.
بعدها جاءت رواية العراء الفائزة أيضا بجائزة كومار وجائزة الكريديف والصادرة في تونس وفي مصر عن الهيئة العامة المصرية للكتاب كما احتفى بها اتحاد الكتاب المصريين في ندوة دعيت لها وقدمت في أتيليه الإسكندرية الذي كرم مؤلفتها. وقد كتبت عن هذه الرواية كما عن دروب الفرار عديد الأطروحات الجامعية.
في تجربة السيرة الذاتية، كانت لي التجربة المختلفة التي لفتت إليها الأنظار وأصبحت تدرس في الجامعة التونسية.تجربة جمعتني مع الفنان التشكيلي أخي حليم ليكون كتابنا المشترك « النجمة والكوكوت: يوميات كاتبة وفنان، حفيظة وحليم قاره بيبان.
أما مجموعتي القصصية الأخيرة «قهوة إكسبريس» رصدت فيها أحلام الشباب وخيباته بعد2011 وقد اختيرت في القائمة القصيرة لجائزة القصة في المعرض الدولي للكتاب بتونس.
أذكر أخيرا كتابتي للأطفال في سلسلة حكايات بنت البحر الجامعة لـ 8 قصص حولت إحداها إلى قصة مغناة من الفنان عادل بوعلاق ومجموعة أجراس وهي موجودة لمن يريد على اليوتوب بعنوان «رؤى والنجمة».
• أنت تكتبين القصة والرواية، أيهما أقرب إليك؟
أنا لا أكتب إلا ما يسكنني ويستبد بي ليركض القلم إلى براريه، يبدع قصة، رواية أونصا متمردا على الأجناس. كل نص أكتب هو بعض مني فكيف سأختار؟..لكل تجربة مذاقها، متعتها وعذابها.
قد تغري الرواية أكثر أحيانا، إذ تنفتح على القصة والشعر والفنون وتفتح زوايا مختلفة للإطلال على عالم تتعدد فيه الشخوص والأحداث، وتسكن الروح لتتشكل وتكتمل خلال سنوات.
• ماهي القضايا التي عالجتيها؟
قضايا الإنسان العربي الرافض أسواره الباحث عن حريته – رجلا كان أو امرأة- الإنسان التائق إلى العدالة، والحب الضائع. لعل قولة الناقد د. محمد القاضي عن روايتي دروب الفرار في تقديمه لها، تلخص جانبا هاما مما شغلني في الكثير من كتاباتي. يقول « هي صرخة إدانة لمجتمع الذكورة في البيت والعسف في الحكم والظلامية في الدين». كتبت أيضا عن الأرض، عن الجسد، عن التاريخ الفلسطيني في تونس في روايتي» العراء»، كما أن للأمومة ورموزها مكانة لا تخفى خاصة في قصص»قهوة إكسبريس» وفي رواية»العراء». للموت أيضا حضور لافت ومختلف.. موت يضاهي الحياة. الكتابة خلق وجموح ولكن هي أيضا موقف ومسؤولية نحو الإنسان.
• الرواية روايات: تاريخية وخيالية وواقعية. ماهي الرواية التي تكتبها بنت البحر
لا تعنيني هذه التقسيمات. الإبداع لا يعترف بالحدود التي يسطرها النقاد. أنا أكتب انطلاقا من واقعنا المتشظي، من لحظتنا التاريخية المتأزمة.الخيال والواقع يتداخلان والخلفية التاريخية تفرض نفسها لوضع العالم الروائي في إطاره.
• تم في المدة الفارطة اختلاس أحد كتبك وأعيد نشره في مصر بنفس العنوان وباسم المختلس. هل من بسطة عن هذه المسألة ومآلاتها؟
حكايتي مع السرقة الأدبية ككاتبة تونسية، هي الأغرب فيما علمت.فقد اكتشفت السرقة من خلال إعلانات على النات للدعاية لرواية»العراء» الصادرة في مصر ورقيا و إلكترونيا مع فقرات مصورة من الرواية واسم مؤلفة مجهولة. لقد تم السطو على رواية»العراء» التونسية كاملة. هذه الرواية الصادرة عن دار نقوش عربية سنة 2012، والمتحصلة على جائزة كومار وجائزة الكريديف والتي كتبت عنها عديد المقالات في الصحافة العربية وأنجزت عنها أطروحات جامعية، تسرق كاملة.حتى الإهداء ظل على حاله. لم يتغير غير اسم المؤلفة ونسبة الرواية إلى دار النشر المصرية بالقاهرة.
أثارت هذه السرقة الغريبة استنكار الكتاب والإعلاميين والقراء في تونس. وأصدرت رابطة الكتاب الأحرار بيانا أعلنت فيه استنكارها الشديد لعملية السطو واعتبرته سابقة خطيرة إذ تمثلت في سرقة كتاب كامل واستهانة بالأدب التونسي.
وقد تولت المؤسسة التونسية لحقوق المؤلف تقديم شكاية إلى الجهات المسؤولة في مصر ، ولكن بعد حجب الناشر المصري للإعلانات ، وجواب الداخلية المصرية لنا بأن الكتاب غير مسجل في الإيداع القانوني، ضاعت كل الحقوق:
• بعد2011، حتى لا نقول بعد الثورة، كيف يبدو لك الوضع الثقافي؟
المشهد يزخر بالطاقات الإبداعية وبالمبادرات الفردية في كل الميادين. ولكن أي ثقافة نريد؟ هل يكفي العمل الفردي أو الجمعياتي لتكون الثقافة عنوان تحضر الشعوب، منارة حقيقية للبلاد؟ البلاد التي تتدنى ميزانية وزارة الثقافة فيها إلى أقصى الدرجات وتعلو فيها ميزانية الشؤون الدينية على حساب الثقافة وكأن الإنسان في حاجة إلى دفع ثمن علاقته بربه..أين المجلس الأعلى للثقافة لرسم رؤية واضحة مستقبلية؟
هل يعقل أن تفرض على الجمعيات الثقافية التي يجاهد المتطوعون فيها لخدمة الثقافة والكتاب خاصة، إجراءات مهينة ومكبلة للنشاط الثقافي القائم على التطوع، كالأداء الشهري للقباضة المالية(سواء أقيم نشاط أولم يقم) ، والملف البروقراطي المتضخم المطلوب للحصول على دعم النشاط الثقافي من جمعيات عريقة مناضلة .
هل يمكن أن تظل الثقافة دوما مهمشة من الإعلام والحكام في عصر نستلب فيه من خلال الثقافة؟ .. بمرارة أذكر أني التقيت بـ3 وزراء متتالين بوزارة الثقافة بعد2011، ضمن الهيئة المديرة لرابطة الكتاب الأحرار وقدمنا في كل مرة ورقة مقترحات ضرورية. كان التفاعل كبيرا. ولكن ظلت المقترحات على الرفوف لأن الأمر أكبر من إرادة وزير. الثقافة إرادة دولة تؤمن بقيمة الثقافة وبأنها نقطة الضوء في ظلمة الحاضر:
الأديبة حفيظة قارة بيبان لـ «المغرب»: الكتابة خلق وجموح لكنها مسؤولية نحو الإنسان
- بقلم الحبيب بن فضيلة
- 10:06 28/09/2021
- 1677 عدد المشاهدات
هي «ابنة البحر» كما يحلو لها أن تسمّي نفسها، وهي ناظمة سطور الشعر ومروّضة حروف القصة ومبدعة فصول الرواية..