مدينة المياه وسيدة العيون، الى «زاما» (سليانة) يحمل الازهر الزناد قراءه ويصطحبهم في رحلة مغرية يمتزج فيها التاريخي بالتخيلي مع طريقة سرد ممتعة.
«زاما202» رواية تتعانق فيها الاسطورة والخرافة ويتمازج فيها الخيال والتاريخ، وتتصاهر فيها عوالم الارض ومدارات النجوم،هي قصّة تمضي بك إلى أبعاد ماضية تبعثها فيك من جديد ثمّ تطوّف بك بعيدا في القادم من الأزمان، فيكبر فيك الحلم ويستبدّ بك فيملك عليك منافذ الوجود... يفتحها أمام ناظريك فتمضي فيها محلّقا عاليا فعاليا بلا حدود، والرواية مهداة الى «ارواح الاطباء الذين ماتوا وهم يحاربون الكورونا، وللأحياء نقول شكرا» صادرة عن دارPop libris edtion.
الحب سبيل للحياة كما الماء
الى بوابة الجمل تكون الوجهة، الى «زاما ريجيا» تحملك الاحداث ايها القارئ فقط عليك التزود بالشغف ودع لروحك حرية التجول في ربوع الماضي، دعها تشاهد اغتسال فينوس في بحيرة عارية تماما، اتركها تحتسي خمور عين باخوس حد الانشوة ثم الرقص، تجول مع امزار سيد المطر ورافقه فوق السحاب، دع موسيقى المياه تدغدغ حواسك فانت في حضرة مدينة الماء، مدينة قامت على العيون، الماء يحييها والماء سيدها واليه تقدم الرقصات والقرابين وعين بعل (بعل حمون) ستروي ظمأك دون شك، فلنرحل الى الماضي البعيد.
«زاما ريجيا» مدينة المياه، منه اخذت القدسية، كنزها الاول «الماء كان سرا لقيامها وضامنا لازدهارها وسببا في ازماتها المتوالية، وبابا على خرابها على مرّ الايام، فقد كانت تقام لكل عين جارية فيها مقاما وضريحا والى ربّات العيون تقدم القرابين شكرا على الجود في الايام الخصيبة» (ص28)، في روايته يتخيل الزناد حوارا بين «فرج» استاذ تاريخ وعامل في احد مواقع البناء مع «جنية» المصباح وهي احدى حوريات عين بعل حمون، فتحدثه عن سرّ المدينة وتاريخها.
في الرواية يعتمد الكاتب على صيغة الماضي والاسترجاع مع حضور خفيف للحوارات المباشرة بين الشخصيات، السارد واحد هو الجنية التي تحدث فرج عن زاما وقصتها والاشخاص الذين أثروا فيها، تحدثه عن صراع خفي بين «كايوس» الداعي الى توسيع الطرقات حتى تستقبل المدينة الملك هادريار، فتتحدث بلسانه وتقول: «مدينتنا زاما ريجيا ملكية والواجب ان تظل ملكية، أرى توسيع الطرقات من اوكد الحاجات، فتوسيع الطريق الى مدينة أوزابّا (هنشير السفينة) وتعهد الطريق الى مدينة أس»وراس (السّرس) ضرورة لتسهيل حركة التجارة، ولا نفكر في طريق جديدة تربط بين زاما ومدينة موستي (الكريب) لنفتح طريق التجارة الى قرطاج عبر توقّا (دقة) والى سيكا فينيريا (الكاف) لنضمن كثافة متزايدة في التجارة على طريق مدينتنا في اتجاه مدن الغرب» (ص34).
لكن نظيره عبد اشمون المنحدر من عائلة قرطاجنية يرى انّ حاجة المدينة إلى الماء هي الضرورة الاولى ووجب ان يطلبوا من هادريان انه يساعدهم لجلب الماء الى زاما من الجبل كما فعل سابقا «سمعت انه اختطّ مسلكا لقناة عظيمة تحمل المياه من جبال زيكوا (زغوان) الى قرطاج، والواجب ان نتقدّم له بطلب في رعاية مشروع التزود بالمياه، فقد جادت علينا الالهة بجبل مصّوج العظيم وما عادت قناة «عين ببوش» ولا قناة «عين سليمان» تفيان بالحاجة المتزايدة الى الماء في المدينة» (ص35) ومع الاختلاف يبدأ الصراع الخفيّ الذي يقوده كايوس بقوة المال والحيلة، إلى ان يتمّ اختيار وحيدة بعل اشمون «ماسيليا» قربانا بشريا لترضى الالهة وتهطل الامطار «الكهنة اتفقوا على ان تقدّم المدينة قربانا بشريا الى الالهة لتمطر السماء بعد الجفاف...قد وجد لوسيوس في ذلك فرصة سانحة لتنفيذ مخطط ما انفك يداعبه منذ عقود، فطالما حلم بان يحدّ من نفوذ عائلة عبد اشمون».
وبعد الاعلان عن القربان تواصل الحورية وصف المشهد بدقة انطلاقا من زينة مبالغ فيها لقربان بعل حمون، الى الرقص والغناء لتفوز العروس بحظوة الاله «يا بعل، هذي العروس، في طريقها اليك، اتتك صاغرة، هدّئ روعها، اشبع جوعها، يا بعل حمون، اطرد بردها، يسّر حملها يا بعل يا حمّون».
في «زاما202» يتداخل الاسطوري بالتاريخي، يلتحم العالم العجائبي مع اسماء تاريخية، تكون نشوة القراءة متبوعة باسئلة كثيرة عن حقائق مخفية تحت اكوام التراب، تواصل الحورية الانتصار للماء وللحياة في سردها لحكاية بنتينال وحبيبها اكسل ورغبتها الازلية في إنجاز قناة تربط توصل الماء من الجبل المصرّج الى زاما، مدينة ولدت مع الماء ومعه تموت، مدينة قصص حبها ولدت حول العيون وحكايات الحيلة سببها الماء، فالماء هو السيد الاول في الرواية واتقن الزناد التلاعب بالكلمات والوصف لتكون الرحلة صادقة ومليئة بالحكايات المثيرة.
أقرؤوا التاريخ ففيه بلسم لوجع الحاضر وظلامه
بين «زاما» الامس و»سليانة» اليوم بون شاسع، بالامس كانت مدينة ملكلية شامخة يزورها الملوك «فقد اتخذت هذه المدينة في القديم الغابر عاصمة للحكم ومقام للملوك ومنها حكموا اطراف البلاد، وفيها رضعوا نسمات الحرية والانفة والكبرياء، فكانت لذلك على مدى الدهور زاما ريجيا (زاما الملكية) مدينة الملوك، هي بوابة الجبال منذ قديم الزمان ومن استولى عليها فقد استولى على كامل البلاد الداخلية ولذلك بادر حنبعل بالدفاع عنها، وبادر بأخذها سيبيون وبادر بضمها يوليوس قيصر من بعده وزارها هادريان من بعدهما ليستولي على قلوب اهلها من الرومان والقرطاجنّيين والنوميديين» اما اليوم فإنها تعاني من التهميش سياسيا واقتصاديا.
بالامس كانت مدينة المياه والعيون الجارية ودفع «اوكتوفيوس» حياته ثمنا لايصال الماء الى المدينة «نهضت الاميرة واخذت في طريقها الى الخزان، وقفت في جماعة الناس تراقب تدفّق الماء، وجدت الماء يجري في الخزان الثاني صافيا عذبا زلالا، هذه قناة المعابد، وتلك قناة الفوروم وقناة الحمامات وهذه قناة المنازل، وراح اسم اوكتوفيوس ينتشر في الافاق» ، واليوم تعاني كاغلب المدن التونسية من الجفاف وشحّ الماء وجد القوس شاهقة عظيمة،واكداسال من الحجارة الصقلية قد تهدمت، وتراكم في القاع ما بقي منها، قالت له في صوت ظلّ يتردد برهة في ارجاء القناة: اقيموا الجسر هنا اعيدوا بناء الجسر ليواصل الماء المسير، ذاك هو الكنز الكبير».
بالامس كانت زاما ملكية وقبلة الباحثين عن الثروة والجمال ومنبع للعلم والمعرفة واليوم يهجرها ابناؤها الى العاصمة والمدن الاخرى علهم يجدون مورد رزق، بالأمس كان «كايوس» سيد المدينة يلاعب حوريات العيون ويعشق تفاصيل مدينته واليوم فرج يبحث عن عمل في قريته البعيدة بعد ارتفاع نسب البطالة «لا تنس ان البطالة منتشرة هذه الايام هناك ناس معطّلون عن العمل وهم في مرحلة الاجازة والدكتوراه، حتى المدارس في هذا الريف البائس هجرها التلامذة فتقلّص عدد المدرسين».
بالأمس كان بعل حمون يقف لزاما ويستجيب لنداءات الناس»يا بعل، يا واهب الحياة،يا رافع الجبال، يا خافض السهول ومرسل المطر، يا زارع القموح في التلال، ومنبت الشجر، يا بعل يا حمّون، يا غالب، يا حارس، يا مفجّر العيون، يا مرسل السحاب يهطل بالمطر، اغث العباد، احي البلاد» (ص47) اما اليوم فان سياسيي البلاد يصمون اذانهم عن نداءات سكان الارياف بالحق في العمل والماء، فالجفاف اليوم بات سياسيا واقتصاديا وثقافيا ووحدهم ابناء المدينة قادرون على احياء مدينتهم.
قراءة في رواية «زاما202» للأزهر الزناد: افتحوا نوافذ التاريخ ففيها أمل للبناء والحياة ...
- بقلم مفيدة خليل
- 09:50 15/07/2021
- 1454 عدد المشاهدات
هلمّ الى الرحيل، فلنرحل في عوالم الخيال، لنعد جميعنا بآلة الزمن الى العام 123قبل الميلاد وما بعده من أعوام، فلنرحل الى ّزاما الملكية»