والاستنبات لا يكاد يذكر أمام ما تقدمه من منافع للبشر، وكذلك حال المؤمن ثابت رغم الفتن، خيره الذي يصل للخلق لا تخطئه العين، وليس لهم عنده من نعمة تجزى إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى.
قال القرطبي: وقع التشبيه بين النخلة والمؤمن من جهة أن أصل دين المسلم ثابت وأن ما يصدر عنه من العلوم والخير قوت للأرواح مستطاب وأنه لا يزال مستورا بدينه وأنه ينتفع بكل ما يصدر عنه حيا وميتا انتهى وقال غيره: والمراد بكون فرع المؤمن في السماء رفع عمله وقبوله.
وشبه -صلى الله عليه وسلم-النخلة بالمسلم، كما شبهها الله في كتابه، وضرب بها المثل للناس، كما في المستدرك عن أنس قال: أتي رسول الله -صلى الله عليه وسلم-بقناع فيه رطب، فقال: « مثل كلمة طيبة "كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء. تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها" قال: «هي النخلة».
وقد وقع في بعض روايات الحديث: «مثل المؤمن كمثل شجرة خضراء، لا يسقط ورقها، ولا يتحات» فقال القوم: هي شجرة كذا، فأردت أن أقول: النخلة، وأنا غلام شاب، فاستحييت فقال: «هي النخلة».
ومن وجوه المثل المضروب في الحديث:
أن فيه الإشارة إلى اتصال نسل المؤمن، كاتصال بقاء النخلة؛ إذ أنها تحمل نواة ابنتها داخل ثمرها، وهكذا هي تكافح لأجل البقاء، وكذلك المؤمن في داخله مادة التناسل، ونطفة البنوة التي تعقبه بحكمة الله التي قضت ببقاء النوع الإنساني إلى آخر أيام الدنيا.
قال الوزير ابن هبيرة: في هذا الحديث من الفقه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ضرب هذا مثلاً يستنبط منه أنه يرغب الإنسان في ابتغاء الولد، فإنه من حيث القياس يشبه بالشجرة التي تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها من ثمارها التي ينتفع بها الناس، وظلها الذي يصد عنهم حر الشمس ويجدون روحه، وما يكون فيها من منافع خوصها وجريدها وغير ذلك؛ فإنها معرضة لأن تثمر ثمرة مشتملة على ما هو أصل لمثلها؛ فلو قدر مقدر أنه قد غرس نوى ثمرة هذه النخلة غارس من وقت حملها إلى آخر بقائها؛ ثم غرس ما تثمره كل نخلة تنبت من ذلك النوى، وامتد ذلك إلى يوم القيامة، فإنه يعلم به قدر الثواب في ابتغاء الولد الذي يولد له ثم يولد لولده وولد ولده، هكذا ما تناسلوا حتى تكون سنة الأمة العظيمة، فهذا معنى قوله: « شجرة مثلها مثل الرجل المسلم».
وقد ذكر بعض الشراح وجوها للمثل المضروب في الحديث لم يرتضها آخرون، قال ابن حجر: ومن زعم أن موقع التشبيه من جهة كون النخلة إذا قطع رأسها ماتت، أو أنها لا تحمل حتى تلقح، أو أنها إذا غرقت ماتت، أو أن لطلعها رائحة كمني الآدمي، أو أنها تعشق فكلها أوجه ضعيفة، إذ كل ذلك مشترك في الآدميين لا يختص بالمسلم، وأضعف منه زعم أنها خلقت من فضلة طينة آدم، فإنه حديث لم يثبت، وفيه رمز إلى أن تشبيه الشيء بالشيء لا يلزم منه كونه نظيره من كل وجه فإن المؤمن لا يماثله شيء من الجماد ولا يعادله.