أن يأتي إليه بحب طمعا في جنته قبل الخوف من ناره .. أن يستجيب استجابة فريدة كاستجابة الرعيل الأول من السلف الصالح، حين دعاهم الله في أكثر من موقف فكان منهم أعاجيب لا تنم إلا على صدق المحبة "أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ" "مَن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً" "فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ" "أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ" .. نداءات خالدات وتصرفات نيرات نعيشها لحظات لعلها تجلو قسوة القلوب وتنير ظلمة العقول.
• ألا تحبون أن يغفر الله لكم:
قال تعالى: "وَلَا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنكُمْ وَالسَّعَةِ أَن يُؤْتُوا أُوْلِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ" النور:22
قال ابن كثير: "وهذه الآية نزلت في الصديق، حين حلف ألا ينفع مِسْطَح بن أثاثة بنافعة بعدما قال في السيدة عائشة ما قال "أي إبان حادثة الإفك".. فلما أنزل الله براءة أم المؤمنين السيدة عائشة، وطابت النفوس المؤمنة واستقرت، وتاب الله على من كان تكلم من المؤمنين في ذلك، وأقيم الحد على من أقيم عليه - شرع تبارك وتعالى، وله الفضل والمنة، يعطف الصديق
على قريبه ونسيبه، وهو مسطح بن أثاثة، فإنه كان ابن خالة الصديق، وكان مسكينا لا مال له إلا ما ينفق عليه أبو بكر رضي الله عنه، وكان من المهاجرين في سبيل الله، وقد ولق ولقة تاب الله عليه منها، وضرب الحد عليها.
وكان الصديق، رضي الله عنه، معروفا بالمعروف، له الفضل والأيادي على الأقارب والأجانب. فلما نزلت هذه الآية إلى قوله: "أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ" أي: فإن الجزاء من جنس العمل، فكما تغفر عن المذنب إليك نغفر لك، وكما تصفح نصفح عنك. فعند ذلك قال الصديق: بلى، والله إنا نحب - يا ربنا - أن تغفر لنا. ثم رجع إلى مسطح ما كان يصله من النفقة، وقال: والله لا أنزعها منه أبدا، في مقابلة ما كان قال: والله لا أنفعه بنافعة أبدا، فلهذا كان الصديق هو الصديق رضي الله عنه وعن بنته".
وفي بعض الروايات أن الصديق رضي الله عنه أنفقَ عليه ضعف ما كان ينفق عليه من قبل.
"أُوْلُوا الْفَضْلِ" أي في الدين، وهذه شهادة من الله جلّ جلاله لِسيّدنا الصِّديق؛ الذي ما طلعَت شمس على رجل بعد نبيّ أفضل من أبي بكر، وهذا ما قالهُ بعض العلماء إنَّه أفضل الصحابة على الإطلاق.
"أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ"خاطبه الله تعالى بصيغة الجمع تعظيما لشأنه وتكريما لقدره .. قال الإمام الفخر الرازي رحمه الله: فانْظر إلى الشخص الذي كنَّاهُ الله سبحانه وتعالى مع جلاله بِصيغة الجمع، كيف يكون علُوّ شأنه عند الله؟
إنه الإيمان الصادق الذي حول الإساءة إلى إحسان، والإعراض إلى رغبة عارمة في المغفرة، وهكذا يصنع الإيمان بالمرء من الأعاجيب التي يقف الإنسان أمامها مشدوها وتجاه أحداثها مبهورا.
يتبع