هَذَا المقام تفاوتًا كثيرًا بحسب تفاوتهم فِي قوة الإيمان والإحسان، وَقَدْ أشار النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم إلى ذلك هاهنا بقوله: «أَنْ تَعْبُدَ اللهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ».
قيل: المراد أنَّ نهاية مقام الإحسان أن يعبد المؤمن ربَّه كأنَّه يراه بقلبه، فيكون مستحضرًا ببصيرته وفكرته لهذا المقام، فإن عجز عنه، وشقَّ عليه انتقل إلى مقامٍ آخر، وهو أن يعبد الله عَلَى أن الله يراه، ويطَّلع عَلَى سرِّه، وعلانيَتِه، ولا يخفى عليه شيءٌ منْ أمره.
وَقَدْ وصَّى النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم طائفة منْ أصحابه أن يعبدوا الله كأنَّهم يرونه؛ منهم ابن عمر، وأبو ذرٍّ رضي الله عنهما، ووصَّى معاذًا رضي الله عنه أن يستحيي منْ الله كما يستحيي منْ رجلٍ ذي هيبة منْ أهله.
قَالَ بعضُ السَّلفِ: مَنْ عمل لله عَلَى المشاهدة، فهو عارفٌ، ومن عمل عَلَى مشاهدة الله إياه فهو مخلِص.
فهذان مقامان:
- أحدهما: مقامُ المراقبة، وهو أن يستحضر العبد قرب الله منه، واطِّلاعَه عليه، فيتخايل أنه لا يزال بين يدي الله تعال، فيراقبه فِي حركاته، وسكناته، وسرِّه، وعلانيتِه، فهذا مقام المراقبين المخلصين، وهو أدنى مقام الإحسان.
- والثاني: أن يشهد العبد بقلبه ذلك شهادة، فيصير كأنَّه يرى الله، ويُشاهده، وهذا نهاية مقامِ الإحسان، وهو مقام العارفين، وحديث حارثة رضي الله عنه هو مِنْ هَذَا المعنى، فإنَّه قَالَ: كأنِّي أنظر إلى عرشِ ربي بارزًا، وكأني أنظر إلى أهل الجنّة يتزاورون فيها، وإلى أهل النار يتعاوون فيها، فَقَالَ النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم: "عرفت فالزم، عبدٌ نوَّر الله الإيمانَ فِي قلبه".
- والسؤال الآن، كيف يصل الإنسان إلى درجة الإحسان؟
إِذا آمن الرجل بِكِتَاب الله تَعَالَى، أَو بِمَا جَاءَ بِهِ نبيه صلوَات الله عَلَيْهِ وَسَلَامه من بَيَانه إِيمَانًا يستتبع جَمِيع قواه القلبية والنفسية، ثمَّ اشْتغل بالعبودية حقَّ الِاشْتِغَال ذكرًا بِاللِّسَانِ وتفكرًا بالجنان وأدبًا بالجوارح، ودام على ذَلِك مُدَّة مديدة شرب كل وَاحِد من هَذِه اللطائف الثَّلَاث حَظه من الْعُبُودِيَّة، وَكَانَ الْأَمر شَبِيهًا بالدوحة الْيَابِسَة تسقى المَاء الغزير، فَيدْخل الرِّيّ كل غُصْنٍ
من أَغْصَانهَا وكل ورقة من أوراقها، ثمَّ ينْبت مِنْهَا الأزهار وَالثِّمَار، فَكَذَلِك تدخل الْعُبُودِيَّة فِي هَذِه اللطائف الثَّلَاث وَتغَير صفاتها الطبيعية الخسيسة إِلَى الصِّفَات الملكية الفاضلة.
فَتلك الصِّفَات إِن كَانَت ملكات راسخة تستمر أفاعيلها على نهجٍ وَاحِدٍ وأنهاج مُتَقَارِبَة، فَهِيَ المقامات، وَإِن كَانَت بوارق تبدو تَارَة، وتنمحي أُخْرَى، وَلما تَسْتَقِر بعد، أَو هِيَ أُمُور لَيْسَ من شَأْنهَا الِاسْتِقْرَار؛ كالرؤيا والهواتف وَالْغَلَبَة تسمى أحوالًا وأوقاتًا.
وَلما كَانَ مُقْتَضى الْعقل فِي غلواء الطبيعة البشرية التَّصْدِيق بِأُمُور ترد عَلَيْهِ مناسباتها صَار من مُقْتَضَاهُ بعد تهذيبه الْيَقِين بِمَا جَاءَ بِهِ الشَّرْع كَأَنَّهُ يُشَاهد كل ذَلِك عيَانًا كَمَا أخبر حَارِثَة حِين قَالَ لَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ: «لكل حقٍّ حَقِيقَةٌ فَمَا حَقِيقَة إيمانك؟ فَقَالَ كَأَنِّي أنظرُ إِلَى عرش الرَّحْمَن بارزًا".
ويقول الإمام المروزي: "فحقيقة الإيمان واستكماله لا يجوز إلا بأداء الأعمال المفترضة، واجتناب المحارم، فأمَّا اسم الإيمان وحكمه فإنه يلزم بالدخول في الإيمان، وإن لم يكن يستكمله، وكذلك جميع الأعمال إذا دخل الناس فيها استحقُّوا اسمها عند ابتدائها والدخول فيها، ثم يتفاضلون في استكمالها بالازدياد في الأعمال، فمن ذلك القوم يصلون، فمن بين مستفتح للصلاة قائمٌ وراكعٌ وساجدٌ وجالسٌ، فيقال لهم جميعًا: مصلُّون، قد لزمهم الاسم بالدخول في الصلاة، وإن لم يستكملوها، وكذلك الصيام والحج وسائر الأعمال، لو أن نفرًا أمروا أن يدخلوا دارًا فدخلها أحدهم، فلما تغيب الباب أقام مكانه، وجاوزه الثاني بخطىً، ومضى الثالث إلى وسطها، والرابع إلى منتهاها، لقيل لهم جميعًا: داخلون، وإن كان بعضهم أكثر دخولًا من بعض، وهذا لا يدفعه أحدٌ يعرف كلام العرب، فكذلك الإيمان الدخول فيه في سائر الأعمال".
وتصبُّ الإجابتان في اتجاه استكمال الإيمان والذي يعد الطريق والضمانة للدخول في مقامات الإحسان، وهو مغزى الحديث الذي بين أيدينا الذي يتحدث عن دلائل استكمال هذا الإيمان وآفاق الوصول من ثم إلى مقام الإحسان.