هلّ علينْا شَهْرُ رَمَضَانَ المبَارَكِ بأَجْوَائِهِ الإِيمَانِيَّةِ الْعَبِقَةِ، وأيَّامِهِ المبَارَكَةِ الوَضَّاءَةِ، وليَالِيهِ الغُرِّ الْمُتَلأْلِئَةِ، ونِظَامِهِ الْفَرِيدِ المتمَيِّزِ، وأحْكَامِهِ وحِكَمِهِ السَّامِيَةِ.
اليوم أوّل شهر رمضانَ، ومَنْ مِنَّا لا يَعْرِفُ فضْلَ هذَا الشهرِ وقَدْرَه، فهُو سيِّدُ الشهورِ وخَيْرُهَا، "شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ" البقرة: 185، مَنْ صَامَهُ وقَامَهُ غُفِرَ لَه مَا تقدَّمَ مِن ذَنبِهِ، فِيهِ ليلةٌ هِي خيرٌ مِن أَلْفِ شَهْرٍ.
تُفَتَّحُ أبْوَابُ الجَنَّةِ فَلا يُغْلَقُ مِنهَا بَابٌ، وتُزيَّنُ فيهِ هذِهِ الجنَّةُ الَّتِي وَعَدَ الرحمنُ عِبَادَه بالغَيبِ؛ تَرْغِيبًا للعَامِلِينَ لَها بِكَثْرَةِ الطَّاعَاتِ مِن صَلاةٍ وصِيامٍ وصَدقةٍ وذِكْرٍ وقِراءةٍ للقرآنِ وغيرِ ذَلِكَ. وتُغَلَّقُ أبوَابُ النِيرَانِ؛ وذَلكَ لِقلَّةِ المعاصِي فِيهِ مِنَ المؤمِنِينَ. وقد ذكر بعضُ العُلمَاءِ أنَّ حَظَّ العَبْدِ فِي رمضَانَ في سَلامَتِهِ ووقَايتِهِ مِن كَيدِ الشَّيطانِ بحَسَبِ حَظِّهِ مِنَ الصِّيامِ؛ فكُلَّمَا كَانَ الصِّيامُ أكْمَلَ وأجْوَدَ وأَتَمَّ كانَ ذَلِكَ أعظَمَ وِقَايَةٍ لَهُ مِنَ الشَّيْطَانِ.
اليوم تَحِلُّ بنَا فُرصةً عَظيمةً؛ تَحِلُّ بنَا في كلِّ لَيلَةٍ مِن لَيَالِي هذَا الشَّهْرِ الكَريمِ خُصُوصِيَّةٌ لَه مِن بَينِ لَيَالِي وأَشْهُرِ العَامِ، إنَّهَا فُرصَةُ الْعِتْقِ مِنَ النِّيرَانِ ففِي كُلِّ لَيلةٍ مِن لَيالِي هذَا الشهْرِ عُتَقَاءُ مِنَ النَّارِ، يَوَفَّقُ مَن شَاءَ اللهُ مِن عِبَادِهِ مِمَّنْ حَقَّقُوا حَقِيقةَ الصِّيامِ والقُرْبِ مِن الرحمنِ بأَنْ يُعْتَقُوا مِنَ النَّارِ، وهذِهِ فُرْصَةٌ عَظِيمةٌ ومِنْحَةٌ كَبِيرةٌ يَنْبَغِي أنْ تَكُونَ هَاجِسَ الإِنسَانِ فِي هذَا الْمَوْسِمِ العَظِيمِ أَشَدَّ مِن هَاجِسِ التَّاجِرِ الذِي يَفِدُ عليِهِ مَوْسِمٌ مِن مَوَاسِمِ التِّجَارَةِ.
و تُفْتَحُ أبْوَابُ السَّمَاءِ, فَرمضَانُ شهرُ اسْتجَابةِ الدَّعَواتِ, فهنَاكَ إعْلانٌ إلَهِيٌّ بأنَّ دعَوَاتِ الصَّائِمينَ مُسْتجَابةٌ، فاللهُ تعَالى يقُولُ عُقَيْبَ آيَاتِ الصيامِ: "وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ" البقرة: 186، ويقولُ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "ثَلَاثَةٌ لَا تُرَدُّ دَعْوَتُهُمْ؛ الصَّائِمُ حَتَّى يُفْطِرَ، وَالإِمَامُ العَادِلُ، وَدَعْوَةُ المَظْلُومِ".
فَكَمْ مِن دعْوَةِ اسْتُجِيبَتْ في رَمَضَانَ، وكَمْ مِنْ أُمْنِيَّةٍ تحقَّقَتْ بالدَّعَوَاتِ فِي رمَضَانَ، وكَمْ مِنْ كُرْبَةٍ كُشِفَتْ بالدعوَاتِ في رَمضانَ، وكَمْ مِنْ حَاجةٍ نَالَهَا أصْحَابُهُا بالدَّعواتِ فِي رمضانَ.
اليوم تَحِلًّ بنَا البركَاتُ، فبَرَكاتُ رمضَانَ لاَ يعْلَمُ عدَدَهَا إلاَّ اللهُ، ولاَ يَقْدِرُ أَحدٌ منَ البشَرِ على حَصْرِهَا، ففِي الحديثِ القُدْسِيِّ قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ يُضَاعَفُ، الْحَسَنَةُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا إِلَى سَبْعمِائَة ضِعْفٍ، قَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: إِلَّا الصَّوْمَ، فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ، يَدَعُ شَهْوَتَهُ وَطَعَامَهُ مِنْ أَجْلِي" مُتَّفَقٌ عليهِ. فمَاذَا تَتَوَقَّعُ أنْ يكُونَ جَزَاءُ اللهِ تعَالى للعَبدِ؟ وماذَا تتوقَّعْ مِنَ الكَريمِ الجليلِ القادرِ إذَا وَعَدَ بعَطَاءٍ كَبيرٍ لَمْ يُحَدِّدْ مقْدَارَهُ؟! اسْرَحْ بخَيَالِكَ حيثُ شِئْتَ فلَنْ تَصِلَ إِلى نِهَايةِ ذَلكَ العَطَاءِ! اليوم يَهِلُّ علينَا رمضانَ فيَنْبَغِي أَنْ نَسْتَقْبِلَهُ بِالْفَرَحِ بِإِدْرَاكِهِ، لِأَنُّهُ فَضْلٌ مِنْ رَبِّكَ أَنْ تُدْرِكَ هَذَا الشَّهْرَ.
نَعَمْ الصيامُ لا مِثْلَ لَهُ فِي إصْلَاحِ القُلوبِ وَتَزْكِيَةِ النُّفُوسِ، وَدَفْعِ النَّفسِ الأمَّارةِ والشيطانِ، لا مِثْلَ لَه في كَثْرةِ الثوابِ ورفعِ الدَّرجاتِ وتكفِيرِ السيئاتِ، ولا مِثْلَ لَه فِي إشاعةِ الرَّحمةِ بينَ المسلمينَ والشُّعُورِ بِهِمْ والتَّسَاوي بَينَهُمْ، لا مِثْلَ لَه فِي معْرِفةِ حَاجَةِ إخْوَانِهِ الفقَرَاءَ وموَاسَاتِهِمْ والإحسانِ إليهم, ولا مِثْلَ لَه في تَعوِيدِ النَّفسِ علَى الأخلاقِ الكريمةِ كالصبرِ والحِلْمِ، والجُودِ والكَرمِ، ومجَاهَدَةِ النَّفسِ فيمَا يُرْضِي اللهَ ويقَرِّب إليهِ، ولا مِثْلَ لَه في إصْلاحِ الأبدان وحِفْظِ عَافِيَتَهَا وبقاءِ صحَّتِهَا، إلى غيرِ ذلكَ.