الهدف من هذه الورقة هو لفت النّظر إلى اللامبالاة التي تتعامل بها السّلط العمومية مع ذاكرتنا الوطنية في المجال السينمائي فهي ذاكرة خصبة وثريّة وتزخر بالكنوز لكنّها ظلْت نسيا منسيّا.
تحت شعار الذاكرة والحنين تقام الدورة الحادية والثلاثون لأيام قرطاج السينمائية ولا يملّ منظْموها من ترديد أنها استثنائية إذ تقام في سياق حالة وبائية طالت كلّ البلدان في كوكبنا الأرضي. وقد وددتُ لو أنّ منظّمي التظاهرة أشاروا إلى أن ما يقترحون عرضه من أفلام طبعت بحضورها ومضمونها وريادتها تاريخ المهرجان المحكوم بعوامل عديدة منها عدم توفّر نسخ افلام مهمّة أسالت الكثير من الحبر زمن عرضها وظلّت برهانا على فلسفة المهرجان المنحازة إلى قضايا الشّعوب العربيّة والافريقيّة لكنّ نسخها غير متاحة لسبب أو لآخر.
هل تستقيم ذاكرة المهرجان دونما «المخدوعون» الفائز بالتانيت الذهبي سنة 1972 وهو فيلم بديع للتوفيق صالح مأخوذ من رواية الفلسطيني غسان كنفاني ومن إنتاج المؤسّسة السورية العامة للسينما. ويترجم الفيلم بحقّ ما يمكن أن ينجزه التعاون العربي عندما تلتقي الارادات الصّادقة والمواهب الاصيلة. ما عزاء الذين يحنّون إلى مشاهدة ذلك الفيلم أو فيلم «كفر قاسم» لبرهان علوية(سنة74) لاستعادة أمجاد المهرجان منبرا للقضايا العادلة؟ وما الاعتذار الذي يمكن ان نسوقه لأولئك الذين يرغبون في استعادة نشوة مشاهدة «صمبي زنڤة» لسارة ملدورور أو «خرج ولم يعد» لمحمد خان؟ وغيرها كثير. وهل تكتمل ذاكرة الايام دون إعادة عرض» أموك « لسهيل بن بركة الذي ميّز دورة 1982 بالحضور المتوهّج لمريام ماكيبا سفيرة لشعب جنوب افريقيا الذي كان يعاني من الميز العنصري آنذاك؟
وهل تكتمل ذاكرة الأيام دون عرض «حكاية في غاية البساطة» لعبد اللطيف بن عمّار الحائز على التانيت البرونزي سنة 1970 وهو الفيلم الذي جعل تونس تنفذ لأوّل مرّة إلى المسابقة الرسمية لمهرجان كان الدولي وهي المرة اليتيمة التي نافست فيها بلادنا على السّعفة الذهبية وقد آلت إلى عبد اللطيف كشيش سنة 2012 لكن عن فيلم عرض تحت الراية الفرنسية . لو عرض «حكاية في غاية البساطة» لتابع الناس كيف تدرّج عبد اللطيف بن عمار من التانيت البرونزي سنة 70 إلى الفضي سنة 74عن سجنان إلى الذهبي سنة 80 عن فيلم عزيزة.
الى متى سيظلّ جرح الذاكرة نازفا بسبب غياب المبادرة بترميم الأرشيف السينمائي الوطني ونقله على محامل رقمية عالية الجودة ؟ وهذا أمر، والحقّ يقال، يتجاوز أيام قرطاج السينمائية والمركز الوطني للسينما والصورة لأنه مرتبط بإرادة سياسية تؤمن أن للذاكرة علينا حقّ حفظها وصيانتها وتنميتها لما تحويه من شواهد على معايشة التطوّر الذي عرفته تونس منذ تأسيس دولة الاستقلال وما شهدته من نجاحات وإخفاقات فالأحداث المهمّة كانت الشركة التونسية للتنمية السينمائية والانتاج تصوّرها بانتظام.لكنّ يبدو أنّ الماسكين بزمام الأمور في وطننا منذ عشر سنوات لهم إشكال عميق مع الذاكرة بل يحاولون إخضاعها لمنطقهم فلا يرون في العقود الستْة الماضية إلا مظاهر الاستبداد التي عانت منها فئات من الشعب ويريدون التعسّف على التاريخ وطمس كلّ ما تمّ إنجازه في مجالات مختلفة. والسينما بالذات من الانجازات المهمْة التي حققتها الدولة الوطنية التي أولت لهذا الفنْ اهتماماملحوظا رغم ان الأولويات التي كانت تفرضها المرحلة كان يمكن ان تكون مبرّرا وجيها لإهمال الشأن السينمائي. وقد وثّقت السينما مظاهر هامّة من حياة التونسيين ونمط عيشهم من خلال الافلام الوثائقية والروائية على السواء كما سجّلت أحداثا هامّة ومؤثّرة في مسيرة البلاد وما عرفته من مخاض وما عاشته من انتصارات وانتكاسات. لكن مجمل هذا التراث الثمين لم يحظ بالعناية اللازمة من السلط العمومية ليتمّ نقله على محامل رقمية فتنقذه من التّلف ثمّ تتيحه للباحثين وللمتفرّجين، فهل يعقل ألّا تتاح للأجيال الشابة مشاهدة أفلام عمار الخليفي
واحمد الخشين والصادق بن عائشة وعبد الحفيظ بوعصيدة وحميدة بن عمّار وابراهيم باباي و غيرهم.
ماضرّ الهيئة المديرة لو قالت إن البرنامج الذي تقترحه قد خضع إلى إكراهات في الاختيار بحيث لم يحوِ كلّ الأفلام التي رسمت هويّة المهرجان وارتبطت به وأنّ الحنين لأفلام الـ35 مم لم يكن اختيارا بل اضطرارا عسى أن تنبّه أولي الأمر إلى ضرورة وسرعة إنقاذ ذاكرتنا السينمائية.