واكتفت بإصدار وحيد في تونس لمجموعتها القصصية «مرافئ التيه» الحائزة على جائزة محمود تيمور في مصر . مع هذه الكاتبة كان لنا الحوار التالي :
• كيف تعرِّفين القارئ بآسية السخيري الإنسانة والكاتبة؟
لم يتبادر إلى ذهني أبدا أن تعريفي بنفسي كإنسانةٍ، على وجه الخصوص، وبطريقةٍ مباشرة، صعبٌ بهذا القدرِ. تعوَّدت على أن يثير شفقتي المشوبةَ بقرفٍ قاتل سعيُنا دائما إلى استعراضِ ذلك الجانبِ المضيءِ منا في محاولةٍ لجعل الآخرِ ينبهر بنا أو على الأقل يقبل بنا ولا يقصينا أو يبخسنا قدرنا.
أنا آسية السخيري، من مواليد 1961. أصيلة مدينة الساحلين التي لا تشبه غير نفسها والتي أراها الأجملَ حتى وهي في أقصى حالات قبحِها. عندما ضاعت مني أجملُ اشيائي لجأت إلى الكلمة واعتبرتها ملاذيَ الراسخ والوطيدَ رغم خوفي لكوني ظللت أُصرُّ دائما على أن الكلمةَ هي الأمانةُ الأكثر قداسةً وشرفًا ونورا في الوجودِ وعلى كلِّ مستوياتِها. الكلمة هي تعويضٌ عن خساراتي الفادحةِ وهي سلاحي الذي تحدَّيْت به عجزي وضعفي وموتي. كتبت وأنا فارغةٌ من كل شيء وامتلأت بي وبسرِّ الكلمةِ.
• كيف جئت إلى عالم الأدب؟
يحدث أحيانا وأن نجد أنفسنا بين خيارين لا ثالث لهما. إما أن ننتهي ونتلاشى في مشهدبائس يتماهي مع وجعنا فنجعله منهج حياتنا أو أن نتحدى ذلك الوجع القاتل ونواجهه بوسائلنا المتاحة الأكثر تلاؤما مع طبيعتنا التي تكون في ذلك الحين على هشاشة لا تُحتمل مما يضطرها إلى تقصي وتمحُّص كل ما قد يزهر فيها. ظللت أكتب منذ سن مبكرة جدا. نشرت بعد ذلك في جرائد تونسية بأسماء مستعارة أشياء كنت أعتقد دائما أنها لا ترتقي إلى ما أطمح إليه وذاك ما كان يملؤني رعبا من خوض المغامرة إلى أن قررت وبعزم صارم أن أتصدى لعجزي وقهري وضعفي وتوجسي وموتي الفاجر.وكتبت... نشرت باسمي نصوصا.
• أنت تكتبين الرواية والقصة، فأيُّهما أقرب إليك؟
الكتابة بالنسبة لي حاجة ولذلك فإن المادة، التي تكون قبل لحظة من انسكابها على البياض مجرد فكرة تائهة في ملكوت السؤال، هي التي تفرض القالب الذي ستتشكل فيه. في البداية لست أنا من يختار الجنس الذي سأكتب فيه ولكن الخطوة الأولى هي التي يتبلور على إثرها النص. الأجناس الأدبية،كما كل الفنون، عموما تتقاطع في أغلب عناصرها وأنساقهاوغاياتها حسب رأيي. ولذلك أرى أنه لا يمكن تفضيل أحدها على الآخر. أعتقد أن الأجناس الأدبية لا ترضخ للتصنيف إلا من خلال التنظيرات التي لا يحتملها الفن بما أنه فرصتنا التي تكاد تكون وحيدة للانعتاق والتحليق عاليا دون شروط تحدد مسافات رؤية تدعونا إلى معانقتها وسبر أضوائها وإشراقاتها الفاتحة. يمكن بالنسبة لي أن تندمج كل العناصر في جنس ادبي واحد. الشعر ليس، بالضرورة، منفصلا عن الرواية لأنه أصل الحكاية (ألم يرو رمبو ويانيسريتسوس ويوجين غيليفيك ومحمود درويش والصغير أولاد أحمد وغيرهم من الشعراء الكبار سيرهم وقصصهم من خلال الشعر؟ ألم تكن ملحمتا الإلياذة والأوديسا وجلجامش هما الروايتان الأكثر قدما عبر التاريخ حتى وإن ظلتا تصنفان في خانة الشعر؟ ثم ألم تكن «حدث أبو هريرة قال» إحدى أجمل الملاحم التي ستظل مهما مضى الزمن منارة أدبية لا تنطفئ أبدا ومرفأ آمنا للعابرين في هذه الحياة ممن جعلوا السؤال الآبق ملجأهم الراسخ؟). والرواية والقصة القصيرة أليستا تحتويان على الكثير من الفنون التي قد يتصور البعض أنهما في قطيعة تامة معها. كيف يمكن للرواية والقصة أن تكونا بمعزل عن الشعر وعن عين السنيمائي أو عن خشبة المسرح والرسام.
• ما هي أبرز المسائل التي قمت بتناولها في شعرك؟
على عكس ما يراه البعض من أصدقائي من كون وظيفة الشعر هي،بالأساس، وظيفة جمالية، أرى أن للشعر إلى جانب تلك الوظيفة الجوهرية، طبعا، وظائفَ أخرى جليلةً ينبغي ألَّا يهملها الشاعر والقارئ. إلى جانب كونه عباراتٍ وكلمات منظومةً تقول أبعد مما تطرحه ظاهرًا وترضخ لإيقاعات داخليةً كانت أو موزونة، الشعر بالنسبة لي، هو أغنية الروح التي تحاول تقصي الحقيقة وكشفها وتعرية كل ما قد يشوهها ويسيء إليها. الشعر بالنسبة لي هو الرؤيا والتأويل والتنبؤ بما قد لا يقدر على تفكيكه الإنسان العادي أو لنقل الذي لا يبالي بغير لحظته الراهنة. الشعر هو السؤال المضطرم الذي لا يتلاءم مع أمننا الموهوم الذي نهرب إليه عادة ونرفض أن نعكر صفوه. الشعر الحقيقي بالنسبة لي هو ذلك الذي ينحاز إلى قضايا الإنسان ويدافع عنها بشراسة لا يمكنها أبدا أن تهمش القصيدة وتجعلها تتنافى مع الجمال كما يدعي البعض. الشعر هو ذلك الذي يدعم القضايا الإنسانية الثقافية والأخلاقية والاجتماعية. الشعر الحقيقي هو الذي يسبر أغوار اللحظة ويسجلها دون تزلف أو نفاق كشهادة للتاريخ.
• لديك شغف بالترجمة، تعكسه كثرة إصداراتك في ذلك المجال، فإلام يعود ذلك الشغف؟
عندما نكتب، تختارنا الفكرة التي قد تكون بازغة في أعماقنا منذ الأزل ولذلك يسدل عنها الحجاب إذا ما توفرت حاجتنا إلى ذلك. الكتابة تنبثق من وعينا باللحظة المرتبكة كي تنبش في لاوعينا الزاخر بحقائق قد تكون فعلا مغمورة بالكثير مما يجعله يومنا وحياتنا منسيا أو لنقل مركونا في خانة النسيان. الكتابة حاجة للإبداع ونبش في المستقبل ولكن الترجمة بالإضافة إلى ذلك اختيارا وانتقاء لما تم فعلا كشف الحجاب عنه من طرف شخص آخر، ما إن تقرؤه حتى يغمرك الإحساس بأنه قال بسلاسة وجمال استثنائي عاشق ما كانت تضج به دواخلك العميقة. الترجمة، رغم وجود المادة التي يرغب المترجم في نقلها إلى لغة أخرى وقارئ آخر مختلف على كل الأصعدة عن لغة النص في نسخته الأصلية، تعتبر هي الأخرى إبداعا من نوع آخر. الترجمة هي الحب والعطاء وليست خيانة كما يفترض مفهومها القاموسي ولا يدرك ذلك سوى المترجم الذي يرفض أن يجعلها مجرد احتراف ومورد رزق. الترجمة هي ان تغوص في النص وتسبر أغواره وليس أن تنقله حرفيا. النص يتحمل قراءات عديدة يسعى المترجم المبدع إلى تقصي تلك التي يراها الأجمل والأعمق والأقرب إلى كاتب النص الأصلي والقارئ في نفس الوقت وناقل الفكرة بنفسه. وهنا تبرز وظيفة المترجم النحات الذي يجعل حمأ النص الأصلي عجينة ينفخ فيها الروح الأم التي يتصرف في وعائها كما لو كانت تلك الروح ملكا له أيضا وكان الجسد الجديد للفكرة رغم كل اختلافاته هو الأكثر وفاء وحضنا لتلك الروح.
• أغلب إصداراتك من الكتب طبعت في مصر ولبنان والأردن وغيرها فإلى ما يعود هذا الإقبال على النشر خارج تونس؟
لا يعود ذلك حتما إلى جودة ظروف النشر واحترام حقوق المؤلف خارج تونس لأن تلك الظروف تتشابه من حيث ما يشوبها من نقائص في كل العالم ولا في العالم العربي فقط؛ وقد تكون لذلك أسباب كثيرة يطول الحديث فيها.
لقد نشرت كتبي خارج تونس فقط كي لا أظل محاصرة في رقعة واحدة حتى وإن كانت بلادي. لقد قربت شبكة النت بين الناشر والكاتب واختصرت المسافات التي كانت تستغرق الكثير من الوقت. كنت أبعث مخطوطاتي إلى ديار نشر وعندما ترد عليَّ بالقبول يصير التعامل أسهل حتى مما هو عليه مع ناشرين في تونس.
الكاتبة آسيا السخيري لـ«المغرب»: الشعر الحقيقي ينحاز دائما إلى قضايا الإنسان
- بقلم الحبيب بن فضيلة
- 09:05 24/10/2020
- 1418 عدد المشاهدات
تعتبر آسيا السخيري صوتا أدبيا متميزا فهي شاعرة وروائية وقاصة ومترجمة ولها إصدارات عديدة نشر أغلبها في عديد البلدان العربية والأوروبية