هي أزمة الأخلاق والقيم، فالأزمة الاقتصادية والاجتماعية التي تتخبَّط فيها بعضُ الأمم الآن، إنما ترجع في الأصل إلى الأزمة الأخلاقية القِيَميَّة؛ لأن الأخلاق هي التي تؤطِّر الإنسان، وتجعل منه مراقبًا على نفسه، ومحاسبًا لتصرُّفاته، ومقدِّرًا لمسؤولياته، وقائمًا بمهماته، وحافظًا لأماناته ... فإذا حضَر الوازع القيمي، غابت الظواهرُ التي تضرب النهضةَ والانبعاثَ في مَقتلٍ؛ مِن سرقةٍ، واختلاسٍ، وغِشٍّ، وتزويرٍ، وكذبٍ، ونفاقٍ، وخداعٍ؛ لذلك ما تعبَّد اللهُ تعالى الناسَ بهذه العبادات، وما افترَض عليهم هذه الفرائضَ والواجبات، إلا ليجعَل منهم عبادًا أطهارًا يمشون على الأرض، فالله تعالى لا تنفَعه طاعة الطائعين، ولا تَضُرُّه معصيةَ العاصين، فصيامُنا وصلاتنا وزكاتنا وحَجُّنا، لا يزيد في ملك الله ولا يَنقُصُ منه شيئًا؛ «لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ» الحج: 37
فإذا تتبَّع القارئ الحصيف المواردَ التي ورَد فيها ذكرُ الفرائض الدينية، والشعائر الإسلامية العظيمة في القرآن والسنة - سيجد أن الله تعالى كلما ذكَر فريضةً من الفرائض، ذكر عقبَها قيمةً حميدة، أو سلوكًا شائنًا؛ كتعليلٍ لمشروعية تلك العبادة، ومن المعلوم أن النص الشرعي إذا عُلِّل بعلةٍ، أو قُيِّد بقيدٍ، فرُوح تلك العبادة هو ذلك القيد وتلك العلة.
وخُذ معي على سبيل المثال شعيرة الصلاة، فقد ذكرها الله تعالى وذكر عقبَها الفحشاءَ والمنكر، فقال تعالى: «اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ» العنكبوت: 45.
وخُذ معي كذلك شعيرةَ الحج، فقد ذكرها الله تعالى وذكر عقبَها الرفثَ والفسوقَ والجدال، فقال تعالى: «الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ»البقرة: 197.
وخُذ معي أيضًا شعيرةَ الزكاة، فقد ذكرها الله تعالى وذكر عقبَها العِفَّةَ، فقال تعالى: «وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ » المؤمنون: 4، 5
وخذ معي كذلك شعيرةَ الصيام فقد ذكَرها النبي صلى الله عليه وسلم وذكر عقبَها الرفثَ والصخبَ، والتساب والتقاتل، وقولَ الزور والعملَ به.
فذِكرُ هذه الأخلاق والسلوكات عقبَ هذه الشعائر العظيمة، مُشْعِرٌ بأن هذه الفرائض ما شُرِعت إلا لمقصد تهذيب السلوك وتقويم الأخلاق، بل مِن أجل هذا المقصد ظهَرت البَعثة المحمدية وجاء الدين كلُّه؛ قال صلى الله عليه وسلم: «إنما بُعِثْتُ لأُتَمِّمَ مكارمَ الأخلاق».