لاحظ الأستاذ مختار العياشي وجود تناقض في مواقف القوى المحافظة، «يتمثـّل في هذه العائلات المحافظة العريقة والمُتشبّثة بالهياكل القديمة والبائدة للجامعة الزيتونية، التي تُفضّل في نفس الوقت إرسال أبنائها للدراسة إلى مدارس التعليم العمومي المدارس الفرونكو – عربية وإلى المعهد الصادقي وبقية المعاهد الفرنسية الأخرى».
ونفس الملاحظة كان يُسجّلها أحمد الدرعي خلال ثلاثينات القرن الماضي في سياق آخر وهو صديق الحداد المُخلص له ونصيره في وقت المحنة .عندما كتب دفاعا عن الطاهر الحداد من مناوئيه الزيتونيين، خاصة الشيوخ ذائعي الصيت منهم: «كثير من الرجال الذين يحملون على رؤوسهم العمائم الكبار ولا يتحدّثون إلا بذكر الأحاديث والآيات لا تفارق أيديهم السبحة ولا أفواههم الذكر، لهم بنات جميلات أنيقات، يخرجن كلّ يوم إلى الفسحة بما فيها، ويخرج أبوهنّ إلى المقهى، يُكفّر بالذنب ويرى مخالفة للدين في كلّ تطوّر، ثم إذا رجع إلى داره قـَبل التطوّر بكلّ نتائجه... ورُبّ مُدرّس من الطبقة الأولى من الهيئة المُديرة لكلّيّة إسلامية بالشمال الإفريقي، يخرج كلّ يوم إثر عمله من تنظيم العلم الشريف، لدار الراهبان ليأخذ منها ابنته، التي قضت نهارها تتعلّم في تلك الدار.. فإذا كانوا لا يقبلون التطوّر فلماذا يُعلمّون بناتهم عند النصارى ؟ وإذا كانوا يقبلونه فلماذا يحملون عليه ؟»
وقد تباينت الأحكام على المواقف المتباينة إزاء إصلاح الجامعة الزيتونية أو المحافظة عليها، كما هي بصرف النظر عن التغيّرات المُتسارعة في المجتمعين التونسي والدولي، من ذلك وعلى سبيل المثال، يرى الشيخ محمّد عبده أنّ الشيخ الزيتوني محمّد الطاهر بن عاشور هو «السفير للدعوة الإصلاحية في جامع الزيتونة ، أمّا البعض الآخر فقد وصفه، بعد دفاعه عن أفكاره الإصلاحية التي تتطابق مع طموحات الجمهور الطلاّبي، خلال انعقاد أشغال اللجنة الرابعة لإصلاح التعليم وتنظيم الإدارة بجامع الزيتونة بأنّه «ممثّل المُشوّشين والمُتكلّم باسمهم داخل اللجنة وفي النظارة العلمية».
وفي الحقيقة فإنّ الانقسام الحاصل في الساحة الزيتونية بين شقّ مُحافظ يُمثّل الأغلبية وشقّ إصلاحي ضئيل العدد، قد انتقل إلى أعمدة الجرائد وكذلك إلى الشرائح الطلاّبية وهو انقسام برزت ملامحه منذ عقود خلت، وتحديدا منذ سطع نجْم الشيخ محمّد عبده في تونس واشتهرت دعوته إلى ربْط حركة الإصلاح الديني بحركة الإصلاح التعليمي.
ولعلّ سُرعة تجاوب الطبقة الإصلاحية مع روح التعليم العصري، والذي تجلّى بالخُصوص في سلسلة محاضرات النادي الأدبي بجمعية قدماء الصادقية خلال سنة 1929 م، وهي المحاضرات «التي أحدثت انقلابا فكريا لا عهد للتونسيين به»، كانت خُلاصة موقف المُحافظين من زيتونيين وصحفيين،( وقد ) نـُبز القائمون بهاته المحاضرات بكلّ التُهم، منها الزندقة والإلحاد.
وكان محمّد الصالح المهيدي قد فسّر حملة التيّار المحافظ على الإصلاحيين بحرصهم «على إبقاء الحالة الفكرية تسير على النحو الذي تسير فيه منذ الأجيال القديمة، ليخلو لهم الجوّ ويُحافظوا على ما لهم من السيادة الوهمية والنفوذ عند البسطاء والعامة».
هكذا ساهمت يقظة الوعي الإسلامي – بعد طول سبات – في إزالة غشاوة الجُمود المُحيطة بالمجتمعات العربية وبعقول نُخبها، وتحفيز قواها النيّرة على استنباط الحلول ورسم السبل الكفيلة بالخروج من حفرة التخلّف، وسلوك طريق الأمم المتحضّرة.
وتكشف مسيرة المُصلحين الذين قدّروا حجم الفجوة الحضارية – التي تفصل بين الشرق المتأخّر والغرب المتقدّم حقّ قدرها – أنّ خلاصة تجربتهم الإصلاحية تتركّز بالأساس على تحرير العقل، وتنقية الدين من مُكبّلاته التي أثقله بها الجهل والوهم والانغلاق، وتنظيم التعليم وتجديد مناهجه ومضامينه، على الرغم من أنّهم وجدوا من الصدّ أنواعا ومن المعارضة الزيتونية ألوانا شديدة كانت كفيلة بتخفيض سرعة الإصلاح حينا وتجميدها أحيانا في مؤسسة الجامع الأعظم بتونس، ممّا أفضى في الأخير إلى نَقـْل المعركة بين تيّارات الإصلاح وطائفة المحافظين إلى الرأي العام في محاولة كلّ طرف لاستمالة الجماهير وكـَسْب الأنصار.
منقول من محاضرة بعنوان « الحركة الإصلاحية والتعليم الزيتوني : للدكتور الصحبي بن منصور».