وهنا يتضح لنا في الآية الكريمة أنّ الحقّ سبحانه تكلّم عن الرحمة الوهبية ذات الاتساع المطلق، وقد أكدها سبحانه بحرف (إنّ)، دليل تأكيد الحصول، وهو سبحانه لا يقيّده شيء ولكنه يَعِد ويتفضل وهو الأكرم من أن يخلف وعوده لعباده..
وقد حدّد سبحانه وتعالى هذه الرحمة الإلهية الواسعة بصنف من البشر وهم المحسنون، وذلك إشارة إلى أنّ أهل الإحسان لهم كرامة عند الله سبحانه حيث خصّهم بتلك الرحمة التي لا يتناهى فضلها، ولا ينقطع فيضها، وهم أهل الله، الذين لا يريدون سواه ولا يطلبون غيره، الذين يشهدونه في توجههم، يشهدونه قريباً منهم، ناظراً لهم، معيناً، سميعاً، بصيراً، فهو الصاحب لهم، وهو السمير، وهو الأنيس، يقول صلى الله عليه وسلّم في وصف مقامهم: «الإحسان هو أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فهو يراك»..
وقد قرن هذه الرحمة باسمه (الله) وهو الاسم الجامع لسائر المجامع، وكأنه إشارة إلى عباده الذين عرفوه بسائر تجلياته، فعرفوه في جلاله كما عرفوه في جماله، وأحبوه في جميع مشاهداته، فكان لهم بكليته كما كانوا له بكليتهم..
وانظر معي إلى هذه اللطيفة الجميلة في الآية الكريمة، حيث ذكر الحق سبحانه رحمته قبل أن يذكرهم، وهذا دليل العناية الأزلية، ودليل أنه سابقهم برضوانه قبل أن يقابلوه بإحسانه.. فسبحان الله الذي سبق عباده المحسنين بكرمه ورحمته من قبل أن يحسنوا بعملهم وطاعاتهم..
ونأتي هنا إلى لطيفة أخرى من لطائف هذه الآية الرحمانية الجميلة، وهي كلمة (قريب).. فسبحانه وتعالى لم يقل (قريبة).. وهنا تحلو العبارة في قلوب أهل الإشارة، فما أعظمه من سرّ هنا في هذه الآية، فإنّه سبحانه لو قال (رحمت الله قريبة) لكان عطاءه هو مقصود عباده المحسنين قبل أن يكون هو مقصودهم، ولكنهم أرادوه هو سبحانه فقال (قريب) ولم يقل (قريبة) وكأنه يشير سبحانه إلى أنه هو أقرب إلينا حتى من رحمته... سبحانك يا مولاي، أردناك وقصدناك قبل عطائك، وشهدناك قبل كلّ شيء فأبيتَ إلاّ أن تجعل نفسك سابقاً لنا من كلّ شيء، وأبيتَ إلاّ أن تكون أنت الأقرب إلينا من كلّ شيء..
فسبحانه جعل رحمته سابقة لغضبه في سائر تجلياته لمخلوقاته، وجعل نفسه تعالى سابقاً لرحمته موهبةً خاصةً لعباده المحسنين القريبين منه.. حتى أنه تعالى لم يقل في الآية: (إن الله قريب من المحسنين)، بل ذكر رحمته كذلك لأنه يريد عطاءهم والتفضل عليهم فكأنه يعطيهم عطاءً واسعاً ويفتح لهم فتحاً مبيناً (ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها)، فهو معهم بنفسه متفضل عليهم بفتحه ورضوانه..