شهر رمضان ولنعش في ظلال هذه الآية العظيمة التي ورد فيها تشريع ركن صيام رمضان حيث يقول الحق سبحانه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ «البقرة - 183.
استفتح الله – تعالى – الجليل الكبير هذه الآية العظيمة، وهذا الحكم الكبير؛ بذلك النداء الحاني، النداء الذي يشعر المرء المسلم حين يقرأه بالدفء والحنان والرحمة:
«يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ» ما ألطفه من نداء! وما ألينه من تمهيد!. يناديهم - سبحانه - ويستثير فيهم هذا الوصف العظيم أي الإيمان به -سبحانه-؛ فهم أهل التصديق والإقرار، أهل السمع والطاعة، وهنا نتذكر ذلك الرجل الذي أتى عبدَ الله بنَ مسعود -رضي الله عنه- فقال: «أوصني، فقال له: «إذا سمعت الله -عز وجل- يقول في كتابه: يا أيها الذين آمنوا فأصغ لها سمعك، فإنه خير تؤمر به، أو شر تصرف عنه».
«كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ» : أي فرض عليكم الصيام وهو العمل الذي اختص الله نفسه بأن يجزي عليه» إلا الصيام هو لي وأنا أجزي به «رواه مسلم: 2760».
« كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ فقد «كان العرب يعرفون الصوم، وقد جاء في الصحيحين عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: «كان يومُ عاشُوراءَ يومًا تصومه قريش في الجاهلية»، وفي بعض الروايات قولها: «وكان رسول الله يصومه» رواه البخاري:2002، ومسلم:1125 ، وعن ابن عباس -رضي الله عنهما-: «لما هاجر رسول الله إلى المدينة وَجد اليهود يصومون يوم عاشوراء، فقال: ما هذا؟ فقالوا: «هذا يومٌ نجَّى الله فيه موسى، فنحن نصومه»، فقال رسول الله : نحن أحق بموسى منكم فصام وأمر بصومه» رواه ابن ماجه:1734، وغيره، ومعنى سؤاله هو السؤال عن مقصد اليهود من صومه لا تعرُّف أصل صومه، وفي حديث عائشة -رضي الله عنها-: «فلما نزل رمضان كان رمضان الفريضة، وقال رسول الله : من شاء صام يوم عاشوراء، ومن شاء أفطر «رواه مسلم:2696 فوجب صوم يوم عاشوراء بالسُنَّة، ثم نسخ ذلك بالقرآن، فالمأمور به صوم معروف زيدت في كيفيته المعتبرة شرعًا قيودُ تحديد أحواله وأوقات». التحرير والتنوير:2 - 208 - 209.
«فحصل في صيام الإسلام ما يخالف صيام اليهود والنصارى في قيود ماهية الصيام وكيفيتها، ولم يكن صيامنا مماثلاً لصيامهم تمام المماثلة، فقوله: كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ تشبيه في أصل فرض ماهية الصوم لا في الكيفيات، والتشبيهُ يُكتفَى فيه ببعض وجوه المشابهة، وهو وجه الشبه المراد في القصد، وليس المقصود من هذا التشبيه الحوالةَ في صفة الصوم على ما كان عليه عند الأمم السابقة، ولكن فيهم أغراضًا ثلاثة تضمنها التشبيه: أحدها الاهتمام بهذه العبادة، والتنويه بها لأنها شرعَها الله قبلَ الإسلام لمن كانوا قبل المسلمين، وشرعها للمسلمين، وذلك يقتضي اطِّراد صلاحها، ووفرة ثوابها، وإنهاض همم المسلمين لتلقي هذه العبادة كي لا يتميز بها من كان قبلهم.
والغرض الثاني أن في التشبيه بالسابقين تهوينًا على المكلفين بهذه العبادة أن يستثقلوا هذا الصوم؛ فإن في الاقتداء بالغير أسوة في المصاعب، فهذه فائدة لمن قد يستعظم الصوم من المشركين فيمنعه وجوده في الإسلام من الإيمان، ولمن يستثقله من قريبي العهد بالإسلام، وقد أكَّد هذا المعنى الضّمني قوله بعده: أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ.
والغرض الثالث إثارة العزائم للقيام بهذه الفريضة حتى لا يكونوا مقصرين في قبول هذا الفرض، بل ليأخذوه بقوة تفوق ما أدى به الأمم السابقة.
وقوله -تعالى-: لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ «لأن الصوم فيه تزكية للبدن، وتضييق لمسالك الشيطان؛ ولهذا ثبت في الصحيحين: يا معشر الشبابب من استطاع منكم الباءة فليتزوج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء «رواه البخاري: 5065، ومسلم:3464»، فـ«الصوم يكسر شهوة البطن والفرج، وإنما يسعى الناس لهذين، كما قيل في المثل السائر: المرء يسعى لعارية بطنه وفرجه، فمن أكثر الصوم هان عليه أمر هذين، وخفت عليه مؤنتهما، فكان ذلك رادعًا له عن ارتكاب المحارم والفواحش، ومهونًا عليه أمر الرياسة في الدنيا، وذلك جامع لأسباب التقوى، فيكون معنى الآية: فرضت عليكم الصيام لتكونوا به من المتقين، الذين أثنيت عليهم في كتابي، وأعلمت أن هذا الكتاب هدى لهم» تفسير الرازي مفاتيح الغيب:5/ 60.