عن كل ذلك و لكن بشيء من الجمال المدهش و الحلم تجاه الماضي وكل ذلك بشاعرية بعيدة عن النوستالجيا المريضة التي لا تنتبه للحاضر وتثمن أشياءه الجميلة التواقة كذلك للمستقبل..
اننا بصدد جمال مخصوص يأخذنا اليه الفنان الحالم صاحب هذا المعرض الذي افتتح مساء السبت 29 فيفري الجاري بدار بودربالة بـ «المدينة العربي»... الفنان هو عزالدين البراري الذي سافر بنا ومن خلال لوحات متفاوتة الأحجام الى حيز من جمال و ذاكرة تونس بأحيائها وأمكنتها ومشاهدها الساحرة بايقاعها وهدوء الأحوال والعناصر فيها..
أعمال فنية تحكي شيئا من سيرة المكان لنذكر «المركاض قرب معقل الزعيم» و«سيدي عبد السلام» و«نهج المر» و«حفلة الموزيكا» أو الحسينية كما يسميها البعض وكذلك لوحة «بائع القرنفل والزهور» ببطحاء جامع صاحب الطابع .... و غيرها...
أعمال فيها الصدق من قبل الفنان الذي بث في الوجوه و الألوان والتفاصيل الكثير من ذاته الوفية للحظة و ترجمانها المتعدد العبارة التشكيلية ..
سوق السلاح والمكان المعروف بسوق العصر و مدرسة العلوية ومعهد ترشيح المعلمين والقشلة حيث ثكنة الأمن بالقرجاني ومقهى الزعزاع المكان الشهير بالتيراس والأقواس حيث كانت مواعيد الفرق والمجموعات الموسيقية الفلكلورية من عازفين وراقصات لاحياء الحفلات والمناسبات مثل الختان والزفاف والنجاح آنذاك في «السيزيام» وما بعده... يقع المقهى قبالة نهج بوخريص وقريبا من نهج عبد الوهاب وحي رأس الدرب الذي كان حاضن العائلة وفيه كنت أصطحب جدتي الى بيوت ومنازل الأقارب حيث «الفاينس» الذي تعوي ألوانه والنقوش التي يصرخ رونقها .. أعرف الأمكنة جيدا حيث كنت الطفل المار يوميا الى المدرسة بنهج بوخريص لأنتبه لايقاع آلة صانع السفساري ومطرقة صانع الخشب الرقيق لصناديق التمر وغير ذلك كثير ومنه المقام..مقام سيدي عمر الفياش...
الساحة في اللوحة مجال بهجة وسعادة حيث الأطفال والرجال والنسوة قرب سوق العصر وحلقة ضرب الدف والنفخ «الزكرة» لتبرز الأفعى في كل ذلك بلعبها ورقصها وحركاتها وفق الأيقاع... كل هذا داخل السور الحديدي وقبالة مقام «سيدي ناجي»...
فضاء اللوحة بمثابة المساحة المتسعة للحكي والقول بالسرد ينحت علامات الزمان و المكان في ضرب من تخير الألوان وفي تناغم مع اعتمالات الفنان و نشيده المفتوح.
الفنان عز الدين البراري الذي يشتغل هنا في هذه السياقات التشكيلية ظل على نهجه يبتكر ضمنه و فيه وبه تجدده مع اللون في لعبة الرسم الباذخة حيث يعني الفن لديه هذا الذهاب عميقا في قول الأنا بصفاء نادر تخيره من ألوانه و تفاصيل حكاية الريشة مع القماشة كل ذلك وفق سرد رائق و حكايات مفعمة بالحميمية والحنين والحب ..اللوحة بمثابة حكاية من حكايات الجدة وهنا نلمس هذه البراعة في ملاءمة التشكيل مع ما هو أدبي ثقافي سوسيولوجي..الحكاية في اللوحة كمعطى في الحقل الثقافي الاجتماعي وفي راهن متحرك ومغاير ... العمل التشكيلي للرسام عز الدين البراري برز فيه وفاؤه لنهجه الفني .. يرقب لوحاته بحنان هائل هو كل ما يملكه الفنان المحب لفنه ولاشتغالاته التشكيلية ..هذه المرة من ضمن اللوحات كانت هناك لوحات كبيرة الأحجام و هي على غاية من الجمال بحيث تكشف جانبا من تعب الرسام لانجازها و لكنه تعب لذيذ كما يقول..
جماليات فائقة فيها الكثير من البساطة والعمق منها حفلة العرس بجبل السرج و أفراح العيد ببطحاء باب سويقة و العيد الكبير و الاستعداد له بتربة الباي...و غير ذلك.هو رسام يعمل بجد و كد بعيدا عن ضجيج الآخرين ديدنه الوفاء لفنه و الصدق تجاه التجربة..
هو فنان أصيل يبتكر لنا المتعة الأخرى بشأن ما تزخر به الحياة التونسية قديما وحديثا من عادات و تقاليد و مناسبات ليبرز ذاك الكم من المشاهد و الحالات والأحداث في ضرب من القول بالثراء وبالامتلاء ..الأسواق و الأنهج و المحلات والباعة بالعربات ..ان الدخول الى عالم الفنان عزالدين البراري هو ضرب من المثول أمام مرآة الذات التي تمنحنا حيزا من الدفء في هذا البرد الكوني المريع..مشاهد و صور من وصف حالتنا التونسية وفق ذاكرة خصبة تمجد العراقة والأصالة و تمدح الينابيع... فنان غزير الأعمال يمشي في المدن و الأحياء بفكرة الفنان وطموح الأطفال ...معرض أخر مميز الفنان عزالدين البراري... نسافر في اللوحات .. نتحسس جسد ذاكرتنا لنذهب في دروبها بكثير من اللوعة والشجن والحنين...