أيّ دور للآداب والفنون في تحرير الإنسان من التزمت والوعي المعادي للتنعم بمباهج الحياة؟ كيف يتصدى الإبداع إلى الجمود وقيم الانحدار؟ هل تتضمّن فعلا سياقاتنا العربيّة القديمة والوسيطة مرجعيات فكريّة وإبداعيّة مقاومة للتزمت وكبح الحريات الفرديّة؟
تلك أبرز الإشكالات التي يتناولها كتاب «متعة الأسماع في علم السماع» لأحمد بن يوسف التيفاشي القفصي، الذي حقّقه الأستاذ رشيد السلامي، ونشره المجمع التونسي للعلوم والآداب والفنون «بيت الحكمة» ضمن سلسلة منشوراته العلميّة والأدبيّة والفنيّة لسنة 2019. ويتضمّن المؤلف برأي المحقّق «وثائق فريدة من نوعها « تتعلّق بالمدوّنات الموسيقيّة وعالم الرقص والمجالس الأدبيّة وطقوس الغناء في بلاط السلطة شرقا وغربا. لذلك يعدّ الكتاب وفقا للأستاذ رشيد السلامي «وثيقة لا نعرف لها مثيلا في تاريخ الحضارة العربيّة الإسلاميّة» . وقد نجانب الصواب لو اختزلنا أهمية الأثر في ندرة الوثائق ذات الصلة بمدونة أغاني إفريقيّة والفنون الأندلسيّة والمجالس الأدبيّة وطقوس التنعّم برغد العيش، بل إن المسألة تتخطى
تلك التخوم، مجسدة في مضامين فكريّة وإبداعات داحضة لأطروحات سائدة حول القضايا الدينيّة والتجارب الحسيّة وهوامش التسامح في حقب يقدّمها البعض في ألوان قاتمة . فمن الطبيعي أن يثري هذا الكتاب « المكتبة التونسيّة والعربيّة وحتى الكونيّة . . بما يجلي عن الأذهان ما علق بالإسلام وأهله من أوهام التزمت المقيت والتوظيف الإيديولوجي الفج « كما ورد في تقديم رئيس المجمع الدكتور عبد المجيد الشرفي . إنّه إثراء للمكتبة الكونيّة نظرا إلى أهمية الإشكالات التي تطرّق إليها، فالموسيقى التي يستوعبها البعض على أنّها الاستمتاع الجمالي المحض، صنّفها التيفاشي ضمن الحلول العلاجيّة الناجعة لأمراض عصيّة عن الطب، مؤكّدا على أن «تأثير الألحان ساريا في نفوس الإنسان والحيوان، مؤثرا فيهما بالنشاط ونفي
الأحزان» . لنستخلص ممّا تقدّم عمق مقاربته للإبداعات الموسيقيّة في القرن الثالث عشر ميلادي، والجدير بالذكر أنّها لازالت محلّ محاكمة أخلاقيّة لدى بعض أطروحات القرن الحادي والعشرين، وتجهل مكانتها الاستيتيقيّة ووظيفتها العلميّة أطروحات أخرى، كما تتنزّل قراءة التيفاشي لوظائف الموسيقى نفسيا وأنطولوجيا ضمن الردود المعرفيّة على مركزيّة بعض
الثقافات، التي تدعي اكتشافها لهذه الحقائق وتسحب من غيرها جهودا موثقة في مؤلفات على غرار كتاب متعة الأسماع في علم السماع، المشدّد على أن «الغمّ والهمّ يكدّر الدم ويفسده»، ولكن إذا سرّت النّفس بالألحان والنّظم وشجن الأعمال الموسيقيّة «تروّق الدم وجاد الهضم والاستمراء»، إنّه سحر المسرّة بسماع الإيقاعات والألحان برأي صاحب متعة الأسماع في علم السماع .
ألم تؤكّد مدارس علم النفس الحديثة وجاهة هذه المقاربة! ألم تصبح الموسيقى اليوم جزءا هاما من الطب البديل! ألم تعتمد العيادات النفسيّة أساسا على الإبداعات الموسيقيّة لترويض السيكولوجيات الباتولوجيّة! بل اكتشفت العلوم المعاصرة قيمة العمل الموسيقي في علاقة بالكائنات الحيّة الأخرى مثل النبات . كما يترجم الكتاب النزعة التحرريّة لكاتب قاوم المحظور وتمرّد عن التدابير الاجتماعيّة والقيم السائدة حيث خاض معيشه على نحو اختاره، فلم يمارس الرياء الديبلوماسي في حضرة الأوصياء الرسميين وغير الرسميين، لنستشف مكانة آثاره في المكتبة الكونيّة المؤمنة بالذات المريدة .