أنْ نرى في هذا اليوم الوطني مُجرّدَ إضافةٍ بَسيطةٍ، أو تكراراً لا يُفيدُ. يَجبُ أنْ نَعتبرَه يوماً هامًّا في حياتنا، يُعالجُ مسألةً خاصّة بنا وبالشعوب مثلنا من المسلمين، ويؤرّخ لقبولنا التغييرَ والانعِتاقَ من سُلطةِ الماضي وسُلطةِ النصّ.
ويُمكنُ أنْ نقولَ ولا حَرَجَ: إنّهُ لفَخرٌ لنا ونَصرٌ، إذا ما تجاهلنا الصّبغةَ السّياسيةَ في القرار واهتممنا بما يُكرّسُه من ثَقافةٍ تُجذّرُنا في العصر الذي تَشاءُ قوى الشدّ إلى الماضي أنْ لا نتجذّرَ فيه.
وقد جاء هذا اليوم احتفاءً بذكرى إصدار أحمد باي في 23 جانفي 1846 قراراً يقضي بإلغاء الرقّ وعَتق العَبيد. وهي ذكرى تحملُ رُموزاً عَديدةً، نَقفُ عند اثنيْن منها بالإشادة والتحليل.
1 – إنّ العبوديّةَ نَصَّ عليها القرآن ولم يُحرّمها، إذْ أقرَّ للمسلمين حَقّهم في ما مَلكت أيمانُهم، والتصرّفَ في ذلك، إنْ للخدمة وإنْ للاتّجار وإنْ للفراش. ولم يكن بإمكان القُرآنِ أنْ يفعلَ غَيرَ ذلك نظراً إلى أنّ العبوديةَ كانت ساعةَ نشأ الإسلامُ مُمارسةً طبيعيّةً لدى كلّ الشعوب، ومُمارسةً طبيعيّةً في الثقافة السامية التي يَنتمي إليها العَربُ والعَربية، ومُمارسةً طبيعيّةً أقرّتها الأديانُ قَبلَ الإسلام، مثل اليَهوديّة والنّصرانية. فنَسجَ القرآنُ على المنوال السائد وأقرَّ العبوديةَ، لأنّه ابنُ بيئته وعَصرِه وناطقٌ بثَقافةِ أهلهِ، مثل كلّ نصّ خالدٍ.
وقد دعا القرآنُ في ظلّ هذه العبودية إلى الرفق بالعبيد والإماء كالرفق بالحيوان. ودعا إلى الإحْسان. ودعا إلى فَكّ الرقبة وتحريرها. ولكنّ الرفقَ بالعبيد والإماء لا يَنفي العُبوديةَ، والإحسانَ لا يُوقفُ الرقَّ، وفَكَّ الرقبة لا يَمنعُ مِلكية العبيد والإماء. والرفقُ والإحسانُ وفكُّ الرقبة أو التحرير أمورٌ لا ترقى في الشرع إلى مُستوى المِلكيّة. فالملكيّةُ مُمارسةٌ جماعيّةُ وحقٌّ وقانون. أمّا الرفقُ والإحسانُ والفكُّ والتحريرُ فأعمالٌ فَرديّةٌ وحَسناتٌ، بعضُها يُعوّضُ بعضاً، حسب اختيار الفرد وهَواه. وقد كان فَكُّ الرقبةِ في القرآن كفارةً عن ذنب يتساوى، حسب الظرف أو جَسامة الذنب، مع إِطْعَام يتيم أو مسكين فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ، أو إِطْعَامِ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ، أو دِيَّةٍ مُسلّمةٍ، أو صيام ثَلاثةِ أيّام، أو حتى شَهرين مُتتابِعَيْن. وهذه الأمور لا ترقى إلى فَرض التّحريم وسنّ القانون في الإلغاء. لذلك ظلّ المسلمون يُمارسون حَقّهم في مِلكِ اليمين، يُمارسون الرقَّ، يُمارسون العبودية، وظلّ عَبيدُ الله والإماء عَبيداً للمسلمين وإماءً لهم. وكان المُسلمون يتباهون بذلك ويقولون إنّهُ جاءَهم بصريح النصّ، جاءَهم في القرآن، وإنّهم يُعاملُون العبيدَ بإحسان.
واستمرّ الأمر على تِلك الحَال، حتّى جاء أحمد باي واتّخذ القرار. أوقفَ العملَ بما جاء في صريح النصّ. أوقفَ العَملَ بما جاء في القرآن. ولم يَلحقِ القرآنَ من ذلك الضّررُ. ولم يَضْعف الإسلامُ ولم يُصبْهُ الوهنُ، بل بوّأه أحمد باي منزلةً جديدةً بين الأمم، وجعله مُواكباً للعصر بعد أنْ كان في هذه المسألة ناطقاً بالجاهلية. كان العالَمُ يومَها، على اختلاف شُعوبه، يَسعى إلى التحرّر من القيد الذي يَشدُّ الناسَ إلى الماضي ويَجعلهم عَبيداً. وكانت بريطانيا العُظمى تتزعّم هذه المسيرة، وترسم مَعالمَ الطريق. فواكب الباي المسيرة، وسَبقَ إلى التغيير في عالم إسلاميّ انغلق على ذاته يَنخُرُ فيه الفَقرُ والعُبوديةُ وظُلمُ الحكّام.
2 – لم تذكر الأخبار من القرن التاسع عشر أنّ أحمد باي قام باستفتاء الناس في هذه المسألة. ولم تَذكر أنّهُ جَمع المشايخَ والمُفتين للمشورة والتّداولِ في هذا الأمر. ورغم أنّ بعض الأخبار تُشير إلى أنّه استشار شيخَ الإسلام الحَنفي ومُفتي المالكية، فإنّ رسالتَه، حسبَ ما جاء في ديباجتها، تدلُّ على أنّه لم يُعلم أحداً: »إلى علماء مشايخ ومفتيي تونس يتضمّن إعلامهم بإلغاء الرّقّ وعَتق العبيد. « ثمّ ذكرهم جميعاً، خَمسةَ عَشرَ نفراً، بالاسم والصفة، شيوخاً ومُفتينَ وقُضاةً. فزيّن بهم ديباجَتَه واتّخذَ القرار، كما يدلّ باقي الرسالة: »فإنّه ثَبتَ عِندنا ثُبوتاً لا رَيبَ فيه أنّ غالبَ أهل أيالتنا في هذا العصر لا يُحسن مِلكيةَ هَولاء السودان [...] فاقتضَى نَظرُنا [...] أن نَمنَعَ الناسَ من هذا المُباح».
لم يفتح الباي باب الحوار وإبداء الرأي. ولم يكوّن لجاناً في الغرض. ثَبتَ عندَه الأمرُ ثبوتاً لا ريبَ فيه. ثبتَ عندَه أنّ الرقَّ مَضى عَهدُه وانقضى. اقتضى نَظرُه أنْ يَمنعَ الرقَّ والعبوديةَ. كان حاكماً في الناس قوّاماً على الدين، فكان المؤهّلَ في الناس لأخذ القرار، فأخذ القرار ولم يُميّع القضيّة بإحداث اللجان. وقَبِلَ الشيوخُ والمُفتون بالأمر. وقَبلت به الأيالة. وقَبلَ به المُتمتّعون بما مَلكت أيمانهم وحَرّروا إماءَهم والعبيد خوفاً من العقاب.
لم يَخف البايُ الشيوخَ والمُفتين وأصْحابَ المَراتب والمُواطنين أجمعين. رأى ضرورةَ التجذّر في العصر، فتجذّرَ في العصر. وتجذّروا، بتجذُّره، في العصر. غيّر ما نَصّ عليه القرآن، ولَمْ يَرَ حَرجاً.
كان ذلك منذ قُرابة القَرنيْن. ولم نُقلّد الباي بعد ذلك إلاّ في مناسبة يَتيمة، لمّا مَنعَ الرئيسُ الحبيب بورقيبة بالقانون تَعدّدَ الزوجات. ثمّ توقّف فينا التوقُ إلى التغيير، وعُدنا كما كنّا نَخافُ الخُروجَ من النصّ، فنتشبّثُ بالنصّ. ونَخافُ التجذّر في العصر. وأحَطنا أنفسنا بالتّعلّات، وأطلقنا الحملات، وأحدثنا اللّجانَ لإبداء الرأي، وفتحنا باب الاستشارة، وتركنا الشيوخَ وأشباهَ الشيوخ والعلماءَ وأشباهَ العلماء والجَهلة يحتجّون بألف حجّة وحجّة على أنّ المَنصوصَ عليه في القرآن لا يقبل التغيير.
سَقطَ الرقُّ وقد نصَّ عليه القرآنُ، فمتى يَسقط الميراث؟ ومتى يَسقط الحجاب؟ ومتى يَسقط الُقربان؟ ومتى تَسكتُ إلى الأبد أصواتُ التكفير؟ متى نَتّخذُ القرارَ دون تلفيق؟ متى نتجذّرُ في العصر وفق أحكام المَدنيّة والمُواطنة والقانون؟ متى يَتعطّلُ فينا النداءُ بالعودة إلى الشريعة السمحاء، ويُصبحُ القرآنُ نَصًّا خالداً في الدين، مثل كلّ نصّ في الدين، لا علاقةَ له بدولة القانون؟