قصيبة المديوني مرفأ حوى مراكب التصنيع والصيد والفلاحة والنسيج والمهن والإستعمار المتوحش والرأسمالية المتغوّلة والشيوعية المتطرّفة والصوفية المتجدّدة والدستورية المتصارعة والنضالية المسلّحة وانبلاج استقلال والتعاضد المبتور والثقافة المتنافسة بين تقليدييها وحداثييها..
كان هذا الوليد – الدكتور نجم الدين خلف الله - السائر على درجات المعرفة وعشق اللغة والأدب والنهل من جذور الموروث القرآني والنبوي والصوفي اعتبارا لإنتمائه العائلي لهذه المدرسة - قد درج من كتّاب القرية ومؤدبيها إلى مدرستها ونقوش الصغر إلى معهدها وانفتاح الآفاق إلى معهد منستير المازري وبورقيبة إلى سوسة الأضواء وكليّة آدابها بزخمها ثمّ العاصمة بصخبها وأحلامها ومنها إلى باريس هجرة بالخوف منها والرغبة فيها والحلم الجامح في آتيها ..
هي رحلة قد تحيلنا تذكّرا على رحلة طه حسين في جزء منها بكلّ تموّجاتها وليس في تفريعاتها حين نفتح النوافذ فيأتينا ترتيل القرآن وفهم مراداته والسنّة النبوية واستيعاب إرشاداتها.. ويأتينا «الجرجاني» في نظريّة «المعنى» ويأتينا التراث الإسلامي بلاغة وفقها وتفسيرا ولغة ومناهج واصطلاحات ويأتينا «بن عاشور» في المقدّمات والتحقيقات والتدقيقات والتصويبات ويأتينا تأصيل التصوّف وتقعيد أحواله ومقاماته وسلوكاته ومدارسه ثمّ يأتينا امتلاك اللغات فرنسية وانقليزية وفارسية ويأتينا الصراع بين التمسّك بجذور الهويّة ومواكبة حداثة الغرب بفلسفاته الوجودية والإجتماعية والتغريبية والاستشراقية وحتّى الإستعمارية وتأتينا السوربون ببريق إسمها وتاريخها التليد وتأتينا شهادة الدكتوراه في اللغة والآداب والحضارة من معهد اللغات الشرقية بباريس ويأتينا الجامعي المدرّس المؤطر في الكلّيات والمعاهد الفرنسية لمختلف فئات الطلبة حتّى ممن نهلوا من العلوم السياسية .ويأتينا من هذا الأكاديمي الأستاذ المحاضر أكثر من 20 إصدار معظمها باللغة الفرنسية وفيها المترجمة كذلك وأغلبها تتناول قضايا اللغة العربية على مستوى التعليم والتوليد المعجمي من أشهرها كتاب «جورنال أرابيا» بما يرصده من العبارات التى نحتاجها لقراءة الصحافة العربية ومدى حضورها في الأحداث السياسية في لحظة فارقة من صراعات اليمين واليسار تجعل من اللغة العربية لغة ثالثة فى برامج المدارس الفرنسية.
هو كلّ هذه الفسيفساء المتناظرة في ألوانها المتشابكة دون تنافر ..
وتستمرّ رحلة الدكتور نجم الدين خلف الله فبعد المعاجم والتحقيقات يقلع من مرفأ القصّة..على مراكب الشرق والغرب شراعه مزيج من لغات ولهجات..
يكتب القصّة ..نعم.. تحوّل من علياء الفكر والتدقيق اللغوي في صرامته والتحقيق العلمي في تصلّبه إلى مواجيد الخيال وبوارق النفس في خلجاتها.. يصدرها في مجموعة قصصيَّةَ أولى ب 144 صفحة ضمن منشورات سوتوميديا، أكتوبر 2018 . اختارَ لها عنوانَ: «قلادة من الضفّة الثانية»،
قلادة رصّفها من توطئة عن البواعث المولّدة لهذا «الإنحراف» عن معهوده كباحث تقليدي سجين القوالب المقيّدة ومن حبّات عددها أربعة وعشرون أقصوصة تدور من الزمن في ساعات اليوم والليلة تحكي كلّ ساعة ما يطيب للإنسان في كثير من الأحيان أن يعبّر عن نفسه ومشاعره وأحاسيسه أو عن أحداث مرّت به في حياته وكان لها بليغ الأثر عليه..والإنسان نزّاع،
بطبعه، إلى الماضي، باك عليه، ذاكر له شاك من الزمان لضياعه وفقده..
قد لا يبدو من ظاهر المضمون كون هذه القلادة ما هي إلاّ صورة أخرى تنحو منحى «أيام طه حسين» و«حياتي للأديب الروسي ماكسيم غوركي» و«اعترافات جان جاك روسو» أو «اندريه جيد» وغيرهم ممن خاضوا غمار هذا الفن،..فنّ الترجمة الذاتية الرمزية والتي إتخذت عند الدكتور «خلف الله» حركة انبعاث من داخله في ثورة ترنو إلى التحرّر من قيود القوالب اللغوية التقليدية والسجع اليابس على الأفهام ...ويرنو لتصوير رحلة بدأت من مرفأ قريته في المغرب الإفريقي بخصوصياتها إلى الغرب الأوروبي في باريس الانبهار الضوئي والصراع الحضاري ..رحلة تحكي الشدّ بين هذين المجالين الحيويين .. رحلة تحكي عبر شخصيات عديدة ومختلفة منها من تسمّر في الماضي كالتي للعلاوي قالت «دعه يتكئ على كتفي فلن يتكىء بعدها أبدا « وكالزهراء التي لم تشعر «كأنّ زوجها لم يكن» وكهؤلاء الذين استحضروا من بعيد «إخوان الصفاء في توديع سنة ميلادية» ومن قريب في «ليس كلّ المكفوفين طه حسين»..
ومنها من يعيش اللحظة بتلاطم أمواجها في زمن النفاق والعولمة والثورات والاستكراش والفساد «كالتهامي والمزمار الصدّاح بعد الثورة » و«مفتاح مجنون السياسة» والكاتبة ذات «الرواية المفككة والمتاجرة بآلام العرب» ..
السؤال نحن إزاء ترجمة ذاتية مواراة أم عمل فني متكامل ؟؟
قد ننتظر عملا فنيّا متكاملا ذات يوم من قلم الدكتور يكون هو القلادة الأولى تأتي في شكل الومضة الورائية بعد مجيء الثانية ونحن نتصفح ترجمة ذاتية جناحها أسلوب ساخر وكلمات من القاموس الشعبي تتحرّج في ظهورها من بين كلمات عسيرة معتقة برائحة المعلّقات والخطب العصماء وكتابات الفطاحل المصاقيع حتى عناوين القصص تراها تتراقص عبثا وكأنّها لا تنتمي لمعانيها ..وجناحها الثاني خمسة عقود عاشها الدكتور مناصفة في ضفّة «دنيا «من المتوسّط يهرب منها أهلها من تخلّفهم ومن فقرهم ومن معاركهم وفي ضفّة «عليا» يراها من يراها جنّة ويراها من يراها سرابا ..
«قلادة من الضفّة الثانية « هي رغبة في الإنشطار أو تخوّف منه نزوعا نحو الأمس فقط أم هي تعادلية مكتنزة أنجبت الدكتور في تركيبته الثنائية كشرقي غربي متوازن ؟