طريقة النداء كانت الموسيقى تحديدا إنشادِ أنماطٍ وضروبٍ هي المسمّاة بـ «الأشغال» و»بحور الحامدي» و»الزمزامة» و»التطريز الجماعي» و»شبوك الإنشاد» جميعها تماهت في عرض «ننده الاسياد».
هو ليس مجرد عرض فرجوي بل محاولة لاِختصار الزمن رجوعا إلى الروح النغميّة الأصيلة أداء وإكسائها ثوبا حديثا لا ينال من أصالتها، واختصار المكان بإشراك أغلب جهات البلاد ضمن عرض فنيّ تتنوع فيه الأذواق والأنغام وطرق الأداء والروافد الروحيّة، وتنصهر ضمن لوحة فنيّة تختزل جزءا يسيرا من نفائس السلامية والقادرية والعيساوية ، فتحملها إلى المتلقي لتعفيه من عناء التنقّل إليها، «ننده الأسياد» عرض لمحمد البسكري هو بحث في الموسيقى الصوفية كان ركح المركب الثقافي بالمنستير فضاء لعرضه الاول.
من البحث في «سفائن البحور الراقية» ولد العرض
جمعتهم الموسيقى، جمعهم الانشاد وان اختلفت الطرق من سوسة والمنستير والمهدية وقفصة وبنزرت اجتمع المنشدون والفنانون لـ ّيندهوا الأسياد لمزيد من متعة الفن وسحره، جميعهم جاؤوا من الوسط والساحل، «نشروا الامان على مراحل، جيتوا من الجنوب جواد وعشق عالجبين مكتوب،جيتوا ننده الاسياد كي العادة اهل الكرم والريادة لا خوف ولا عبادة ولكن طمع في الفن» كما يقول رضا عزيز مرحبا بضيوف العرض وزواره.
الوان تونسية تزيد المكان بهجة
18عازف دف وبندير بأصواتهم القوية يرجومن العقل أن يصحو من سباته كانوا آخر الركح ، الى اليمين عازفو قيثارة بايقاعاتهم الرقيقة سيمتعون قلبك وعازف باطري تلك الالة صاحبة النغمات الرقيقة حينا والصاخبة احيانا ولاختلاف نغماتها عنوان اختلاف اناشيد العرض و كمنجة الالة الساحرة وكانك تناجي الاسياد وتخاطب روحك دون حواجز،.
المنشدون جلسوا في ثلاث حلقات، في الاولى يلبسون اللون الاخضر ويضعون البرنس الليبي وهم جماعة «القادرية» نسبة الى سيدي عبد القادر الجيلاني، في الحلقة الثانية جميعهم بالجبة التونسية الحرير ويضعون الشاشية الحمراء وهم المنتسبون الى الطريقة السلامية جماعة سيدي عبد السلام الأسمر والحلقة الثالثة لبسوا الزيّ المميز لأرياف سيدي عامر والمكنين وطبلبة ذاك اللباس الرمادي اللون الشبيه بالجبة مصحوبة بالسروال العربي القصير وهم جماعة سيدي عامر المزوغي.
ثلاثة طرق صوفية تجتمع للمرة الاولى في عرض واحد بعد تدريبات سبعة اشهر وبحث في الموروث الموسيقي الصوفي انجزه الاستاذ محمد البسكري ، بحوث علميّة انطلقت من تحقيق مخطوطات موسومة بـ«سفائن البحور الراقية» المحتوية لأشعار التراث الغنائي الروحي لتلك الطرق، كما استند إلى بحوث ميدانية في جمع ذلك الموروث الغنائي الفريد.
تتكون مادة العرض الفنيّة من أدعية وقصائد روحيّة من التراث الصوفي البحت، تقدّم في شكل بحور وتهليلات وشطحات وأختام، وفي قوالب شعريّة تقليديّة على أوزان ما اصطلح عليه تونسيا بـ«القسيم والمسدّس والملزومة» (وهي نصوص حوتها المخطوطات التي اشتغل عليها الأستاذ محمد البسكري والمعروفة بسفائن البحور الراقية).
وتقع تأديتها على إيقاع أوزان تونسية تقليديّة وتغنّى في مجملها بنغمات تحاكي الرّوح التقليدية الأصليّة نطقا وأداءً تراعي خصوصيات الحركات النغميّة من جهة إلى أخرى، في طبوع تونسيّة نقيّة وتُؤَدَّى جميعها بأصوات ذات سمات ونبرات تونسية وذات بعد صوفي تصبو إلى الوفاء لروح تلك النغمات الأصليّة ما أمكنها وترسّخ تلك النغمات العذبة لدى المستمع والمتلقّي بالاعتماد الكليّ على الأداء الصوتي.
الساكسوفون قائد الرحلة الروحية
صوت رقيق هادئ ينبعث من الكواليس، الرّكح تزين بكل ما هو تونسي، فرش المرقوم بكتاباته الساحرة والكليم بألوانه الزاهية، الشموع توسطت المكان لتضيء الروح والمكان، عازف الساكسوفون كان له شرف قيادة الرحلة الروحية، موسيقى صوفية وانشاد روحي تعوّد المتفرج ان يبدأ مع الطبلة والطار فهاهو البسكري يختار الة غربية قريبة الى الروح والقلب لانطلاق العرض.
نغمات الساكسفون الجميلة تحملك في جولة الى المقامات الثلاث المرسومة على الشاشة الخلفية، ستعشق جمال زخارف مقام سيدي عبد السلام الاسمر، لن تنسى البحث عن تفاصيل زينة مقام سيدي عبد القادر وستمتع عيناك بسحر مقام سيدي عامر، نغمات غربية رقيقة تحملك الى جولة روحية فدع لروحك الحرية، دعها تعانق النغمات وتسافر مع الموسيقى، دعها تعشق شدو الملائكة، بعد الساكسوفون تتحدث الة البندير بصوتها العالي، لن توقظك من حلم الرحلة بل ستشد ازرك ايها الزائر، لتبحر مع «الأشغال» و«بحور الحامدي» و«الزمزامة» و«التطريز الجماعي» و«شبوك الإنشاد».
الموسيقى توحدنا وإن اختلف المنبع
ألوان مختلفة اختلاف الجهات التي ينتمي إليها العرض التونسي الروح والتقديم، على الركح اجتمعوا في عرض موسيقي واحد، اختلفت طريقة انشادهم، اختلفت الفرق والطرق التي تربوا على موسيقاها، تباينت رقصاتهم فلكل طريقة رقصتها الخاصة ولكنهم اجتمعوا وندهوا الاسياد بلون واحد وباسم موحد هو تونس، من قفصة وسيدي بوزيد وراس الجبل وبنزرت وسوسة وأرياف المنستير والقيروان وباجة وليبيا اجتمعت الاصوات في عرض واحد.
أّذ يطمح العرض إلى هدم الفوارق الجهويّة بما يحمله مدلولها المتداول من معانٍ سلبيّة، ليعمل على توظيفها ضمن عمل موسيقي مشترك يبرز الخصوصيّات الفنيّة المتفرّدة لكلّ جهة من جهات وطننا العزيز وثراء مخزوناتها، ويتكامل في مجمله ليقدّم للجمهور التونسي لوحة فنيّة مشتركة مضمونا وتنفيذا ضمن مشروع فني يتّخذ من تنوّع موروثنا الصوفي التونسي مطيّة للتجميع وتقريب الرؤى واختزال المسافات على حد تعبير محمد البسكري صاحب المشروع، عرض يقوده ابناء الجهات، أولئك الذين تربوا في الطرق واختلافاتها ليكونوا عنوانا لتميز العرض الصوفي الجامع لطرق مختلفة، ابناء الجهات الداخلية يكونون محور العرض قادته وعنوان اختلافه على اغانيهم وأناشيدهم غير المعروفة ينبش البسكري ليعرّف بهم وبأناشيدهم ويقدم للجمهور التونسي عرضا متكاملا تتحد فيه كل مقومات الجمال الموسيقي.
ارقص لتتحرر...
حركات الجسد لها حكاياها، هنا الجسد يتحرر من كل ربقة ليحدث الجمهور عن القادرية والعامرية والعيساوية، اشتركوا في اللباس التونسي «مريول فضيلة» بمختلف الوانه والسفساري التونسي والسروال العربي، اعلام الطرق الثلاث ترفع في كل رقصة كاشارة الى وحدة الروح امام الموسيقى.
اللوحات الكوريغرافية التي اشرف على انجازها رمزي ضيف الله جمعت التقليدي والمعاصر، رقصة التخميرة قدمت بطريقة عصرية، محاكية لـ»حضرة الخمارة العيساوية» المتمثلة في رقصة التخميرة ضمن صفّ تحت إشراف شاوش الحضرة والمصاحبة لكامل الشغل العيساوي بداية بالمجرد وصولا الى الخفايف. كما يتضمّن العرض لوحات كورغرافية محاكيّة لما يسمىّ «دخول العادة أو دخول الدّالة» للطريقة القادريّة بجهة قفصة والجريد التونسي. اضافة الى لوحات رقص حديثة مستوحاة من روح الطريقة السلامية ومتماهية مع مضامينها رقصات تماهت مع الموسيقى رقصات حاكت تحرر الروح من كل القيود وتماهي الجسد مع ذاته بعيدا عن كل المكبلات.
وتماهت الفنون جميعها.
في «ننده الاسياد» تجتمع كل الفنون، بداية بالموسيقى، ثم حضور تقنيات السينما من خلال عرض صور مقامات الاولياء الثلاثة فجولة مع الفداوي والحكواتي وتلك مهمة طارق عزيز ليحدث الجمهور عن كل فرقة وخصوصياتها الموسيقية، وللمسرح حضوره من خلال تجسيد الزيارة الصفاقسية فأهل صفاقس يزورون سيدي عامر قبل كل زفاف وذلك من عادات أهل البلاد فالزيارة من مقومات الزواج، لتجدهم يدخلون في مجموعة يحملون قفاف الخير والشموع تتراقص يلبسن السقساري والحايك نادهين سيدي عامر، مشهد مسرحي يحاكي الحقيقة ويكشف عن بعض المعتقدات الجماعية الشائعة.
«ننده الأسياد» عرض الاختلاف والتنوع
عمل أصحاب العرض ضمن هذا المشروع على النظر بعين الوفاء إلى موروث عدد من الجهات الداخليّة من بلادنا التي لم تتّسع لها العروض الفرجويّة السابقة، على الرغم ممّا تزخر به من تراث صوفي متنوع ومتميّز أداء ولحنا وإيقاعا من جهة إلى أخرى على غرار:
• موروث الطريقة القادرية الذي تعجّ بكنوزه ونفائسه مدن الجنوب الغربي وخاصة منها ولاية قفصة وتوزر وسيدي بوزيد لما تحتويه من غزارة النصوص الشعرية وتنوّع النغمات الموسيقية الموسومة بروح متميّزة في الأداء اللحني واللهجة الغنائية وخصوصية الإيقاع، والتي لم يكتب لها البروز ضمن عرض فرجوي على نطاق وطني.
• موروث الطريقة السلامية بولاية بنزرت وجهة رأس الجبل خاصة،وولاية باجة وممعتمديات الوطن القبلي ومدن الساحل التونسي كالمنستير وطبلبة والقيروان وقابس ومدن الجنوب الغربي « قفصة وتوزر ونفطة».
• موروث الطريقة العيساوية الأصليّة من منبع انتشارها الأوّل عند قدومها من المغرب وهو مقام الولي الصالح «سيدي الحاري» بحومة القلالين بالمدينة العتيقة وما يحتويه المقام من محافظة على طريقة الآداء الأصلية ونفائس القصائد والألحان التي لم يكتب لها الوصول إلى المشاهد التونسي «عموما» إلا ما ندر منها ضمن بعض العروض الواسعة، أو من أسعفه الحظ في حضور بعض حلقات الانشاد بذات المقام او بقام سيدي أبي الحسن الشاذلي وسيدي علي الحطاب وسيدي أبي سعيد الباجي على نطاق محلي ضيّق.
وعموما فإن هذا المشروع الفني هو محاولة لاختصار الزمن رجوعا إلى الروح النغميّة الأصيلة أداء وإكسائها ثوبا حديثا لا ينال من أصالتها، واختصار المكان بإشراك أغلب جهات البلاد ضمن عرض فنيّ تتنوع فيه الأذواق والأنغام وطرق الأداء والروافد.