للألوان أسرارها ولكل لون حكاية في ثورة دون كيشوت كانت المزاوجة بين الأحمر الصاخب كلون الدماء المتدفقة في العروق والأسود اللئيم ذاك اللون المقلق لون الخديعة والخيانة، لون الظلام الذي يحتضن الصفقات المبرمة سرا لخيانة الوطن وبيع ثورة شعبه، والأبيض المخادع اللون الذي يظهر الصفاء في حين انه يخبئ خلفه حكايات المخادعين المتملقين باسم الدين والوطن.
ثورة دون كيشوت، مسرحية جريئة ومختلفة عمل أعطى للون حقه وجعل للسينوغرافيا دورها في حبك لعبة درامية مترابطة، على الركح، عربة مرمية سوداء اللون، في الركن، امرأة تبدو كملكة تلبس رداء طويلا، حبلى، ثم صوت للموسيقى القوية ومعها حركات وجه اماني بلعج وكأنها لحظة المخاض والولادة، وجيعة تنطلق بزفرة ثم صرخة فلحظة الميلاد، ميلاد هذا العالم الغامض، منذ البداية ترمي الام وليدها الى العربة وكانها احالة الى ان عالمنا تتقاذفه الحماقات و الاشرار منذ بداية الخلق.
فانتقال إلى العربة، امرأة عجوز ورجل يبحثان عن فتات الطعام، للعربة رمزيتها في الثورة التونسية وللمشهد ايضا رمزيته لانه يحيل على الكثيرين الذين يعيشون على الهامش في حين انهم من صنعوا الاحداث وقلبوا ميزان القوة تماما كما شاهدنا في المسرحية.
ثورة دون كيشوت لوليد الدغسني نقد للواقع والموجود، نقد للسياسة والقضاء والاعلام وتوجيه اصابع الاتهام الى الساسة الذين سرقوا ثورة الشعب، وكما حارب دون كيشوت طواحين الهواء منذ 400 عام نجد ان التونسي اليوم لازال يحارب الاوهام، وهم التحرر ووهم الديمقراطية ووهم السيادة الوطنية ووهم الحق في العيش الكريم ووهم الحق في السكن ووهم الثورة جميعها اوهام ظنها التونسي حقيقة ليكتشف بعد سنوات انها مجرد اوهام كتلك التي يراها التائه في الصحراء.
على الركح شاهد جمهور مدنين الكثير من النقد الموجع والساخر، استمتع باداء ممثلين ابدعوا في تجسيد شخصياتهم حد التماهي، كانوا ممثلين صادقين اقنعوا جمهور مدنين صعب المراس، في ثورة دون كيشوت حضر النقد الموجع النقد اللاذع للوطنية المزيفة جسدها في نقاش حاد بين محاميين اثنين اول يدافع عن حرية المرأة وثان يدافع عن مغتصبها، سب وشتم، صراخ وثلب ليكتشف المتفرج ان الاول «المدافع الشرس» يعمل لصالح الثاني، وتكون كل القضية وكأنها مسرحية داخل المسرحية.
نقد الاعلام ودوره في تهويل بعض الحكايات وتسطيره لحكايات اخرى لصنع «البوز» ونقد الامنيين المتورطين في التستر على الارهابيين وغيرها من المواضيع التي عاشها التونسي نقدت على الركح بلغة جميلة واداء مميز.
فوظيفة المسرح لا تقتصر على نقل الواقع، بل تتجاوز ذلك إلى «التفكير فيه وتأسيس رؤية تُعلي صوت الفنان المتنبّئ والقادر على تحليل الواقع وتقديمه في أشكال جمالية مضبوطة ومنظّمة، وتعتمد على رؤية فلسفية» على حد تعبير وليد الدغسني مخرج العمل.