إصدارات: كتاب للصغير الصالحي الاستعمار الداخلي والتنمية غير المتكافئة، منظومة «التهميش» في تونس نموذجا»

منذ الصفحات الأولى حدّد المؤلف هدفه بتناول ظاهرة «التهميش» في شموليتها في أبعادها التاريخية والانتروبولوجية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية.

وفي الفصل الأول ( من رصد الظواهر إلى فهم المنظومات) توقف المؤلف عند ضرورة تناول ظاهرة التهميش من خلال مقاربة معرفية وفكرية بإخضاعها لأدوات الفحص المعرفي والبحث في أسبابها وفهم البنية التي تنتجها، متجاوزا الوقوف عند رصد تجليات الظاهرة و قياس انعكاساتها. ولهذا الغرض استعار المؤلف مفهوم الاستعمار الداخلي الذي ظهر في سياق البحث عن أسباب غياب التنمية في أمريكيا اللاتينية في ستينات القرن العشرين والذي يمكن تلخيصه على انّه « إيجاد الشّرعية لعلاقة هيمنة واستغلال بين المجموعات تتحقّق من خلالها التنمية غير المتكافئة» (ص34)، وخلص إلى النفاذ الى السلطة في تونس يتأثر كثيرا بالانتماء المناطقي مما يفرز علاقة هيمنة بين المجموعات.

وفي البحث عن الجذور التاريخية لعلاقة الهيمنة يرجع المؤلف في الفصل الثاني (النخب والسلطة والمجموعات) إلى تاريخ السياسات الداخلية بداية من العهد الحفصى وطبيعة العلاقة بين الأطراف الثلاثة موضوع العنوان وانتهى إلى استخلاصات متعددة أهمها استعلاء النخب عن المجتمع وخروج السلطة عن مكوناته وانحصارها في مجموعات مخزنية شبه غربية عن المجتمع متجانسة في ثقافتها وفي وانتمائها المكاني فيما بينها براوفدها الثلاثة الاقتصادية والدينية والسياسية. (ص 72). ولعل الاستخلاص الأهم تأكيده على أهمية الانتماء المناطقي في انتروبولوجيا السلطة و الذي كان حصرا في سكان الحاضرة قبل الاستعمار مع أفضلية لذوي الأصول الأجنبية.

وفي الفصل الثالث ( الدولة التحديثية ، المرجعية والمشروع) يرىالمؤلف ان ما اصطلح على تسميته بالحركة الإصلاحية كانت مرحلة هبوط وانحطاط وأن فساد المصلحين كان وراء إفلاس الدولة و دخول الاستعمار وان محركاتها كانت داخل البلاط ووراء البحار وليس لها علاقة بالمجتمع أو بإرادته او بإدارته او بازدهار العمران وكان محورها استمرار سيطرة المجموعات الحاكمة: (المخزن).

وحمل الفصل الرابع بحثا في طبيعة الهيمنة السياسية لدولة الاستقلال التي اكتست الهيمنة طابعا مناطقيا وتتبع مساراتها وانتقال مركز الثقل من الحاضرة الى الساحل و تحليل الخطاب المصاحب . ومن بين النتائج المثيرة والمعبرة التي توصل لها المؤلف مثلا مشاركة ولاية لوحدها و التي يمثل وزنها الديموغرافي 4 في المائة، في تركيبة الحكومات خلال فترة حكم بورقيبة، ب28 في المائة من المناصب الوزارية وهو ما يفوق مساهمة 16 ولاية يمثل وزنها الديموغرافي 62 بالمائة، إضافة إلى ما تتمتع به الولاية المعنية من سيطرة نوعية بانتماء رؤوس السلطة التنفيذية لها (ص 310).ولا يختلف المشهد نوعيا في فترة حكم بن علي .

وقد تعرض الفصل الخامس إلى ( تنظيم المجال وبناء قاعدة التفاوت) ويلاحظ المؤلف المركزية لإدارة التنمية وتحويل الموارد بين الجهات وتخصيصها تنظيم الدولة والخانقة للتنمية في الجهات غير النافذة في السلطة ويشير إلى عدم الاعتراف رسميا بالجهة وغياب أمثلة التهيئة الترابية المصادق عليه أو التي تكتسي صبغة رسمية مع قيام دراسات في الغرض سنة 1973 وسنة 1996 تسترشد بها الحكومات في تستر وتنفذها في صمت. ويقدر المؤلف بأن دراسة السبعينات قد نظرت للاستعمار الداخلي في بعده الاقتصادي بينما مكنت دراسة 1996 من انصهار منظومة الاستعمار الداخلي في منظومة التبعية تحت شعار «المقتضيات الجديدة « والمصلحة الوطنية» كما استكملت ارساء الهيمنة الاجتماعية لتوفير خزان من قوة العمل الرخيصة لمواجهة العولمة . (ص383)

وتضمن الفصل السادس عرضا حول (شروط التبادل وثنائية الأوضاع الاقتصادية ) ورصد فوارق نوعية في الاداء الاقتصادي بين الجهات والجهات المستفيدة و الاخرى تعكسه فوارق الناتج الخام الجهوي الفردي الذي نجد أربعة اضعاف بين الأقاليم وعشرة اضعافه بين الولايات المتصدرة والأخرى المتذيلة للترتيب وكذلك تقع فوارق الانتاجية في حدود ثلاثة اضعاف بين الأقاليم وهي أرقام تعكس الفوارق الهيكلة في بنية الاقتصاد في كلا المجالين وتترجم واقع الاختلافات النوعية في أنشطتها ويشير المؤلف الى ان شروط التبادل قد احتوت ضمنيا «على احتكار الواجهة البحرية «(الساحل تونس) الاستفادة من معدلات النمو الوطنية بينما كان النمو بنسب اضعف أو سلبيا في بقية المناطق» (ص 482) .

حمل الفصل السابع عنوان (ثنائية الأوضاع الاجتماعية أو العوامل الثلاثة) وتكمن الفكرة الرئيسية في هذا الفصل في ان الفوارق بين الجهات قي المؤشرات الاجتماعية على اختلاف انواعها ابتداءا من نسب البطالة والفقر و النجاح في الباكالوريا وطاقة استيعاب مراكز التكوين المهني وانتهاء بتوزيع الانفاق العمومي ونسب الأمية متفاوتة كلها وفي نفس التجاه بفوارق تتراوح بين ثلاثة وخمسة اضعاف. وهي الظاهرة التي اطلق عليها المؤلف مصطلح العوامل الثلاث ويؤكد على انسجام المؤشرات المختلفة على لطبيعة البنيوية لاسباب الاختلال (ص 519)

وقد تطرق الفصل الثامن الى (السيطرة الناعمة والهيمنة الثقافية) كأحدى آليات الهيمنة والإدماج في سياق تأميم الفضاء الثقافي والتي تتضمن إعادة صياغة التاريخ و التلاعب بالذاكرة الوطنية وتعتمد مصطلحات ملغومة لصناعة رموز التفوق و اختراع التقليد لارساء نموذج لعلاقة تفوق وهيمنة بين الجهات يتم بثها في الوعي الجماعي عبر مؤسسات المدرسة والمهرجانات والمصطلحات و الخطاب السياسي والاعلام ( 550)

ويخلص الكاتب إلى أن التجربة قبل الثورة وبعدها تفيد ان تسوّل التنمية من المجموعات الحاكمة واستجدائها طريقة أظهرت عدم نجاعتها وهي في الواقع تعبر عن موقف سياسي يترجم حالة من الوعي غير المكتمل للمجموعات الخاضعة ، و يرى أن العمل على فرض مساهمتها الفعلية في السلطة التنفيذية (وليس المطالبة) يبدو أكثر فاعلية . وفي النهاية يطرح الكتاب عناصر جديدة لفهم اختلال الواقع التنموي بين الجهات الذي تكمن مفاتيحه في جغرافيا امتلاك السلطة حسب المؤلف ويؤسس بذلك لنقاش عميق يصعب تفاديه حول توزيع السلطة والثروة في البلاد . ويطرح في ألان نفسه تحديا للنخب السلطة القديمة والجديدة على حد السواء.

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115