خرجت من حفل افتتاح مهرجان قرطاج السينمائي وفي ذهني هذه الأبيات التي عبّر بها أكبر شعراء العرب الراحل محمود درويش عن حبه لتونس. تذكرت هذه الكلمات وأنا أحاول تفسير وفهم سحر أيام قرطاج السينمائية.
قلت لنفسي لماذا لم نشف من حب أيام قرطاج السينمائية ولماذا لا يزال عبقها وبريقها إلى اليوم يتواصل ويمرره كل جيل للجيل الذي يأتي بعده ليبقى هذا الهيام والعشق كأول الحب كما قال نفس الشاعر. لماذا يتواصل هذا الحب وهذا الانتماء لهذا المهرجان دون غيره من المهرجانات العالمية التي تم بعثها في عديد البلدان في السنوات الأخيرة ومن ضمنها عديد البلدان الشقيقة بالرغم من الإمكانيات الكبيرة التي تتمتع بها مقارنة بالأيام السينمائية بقرطاج؟
كيف نفسر هذه العلاقة الحميمية وخصوصية هذه التظاهرة مقارنة بكل التظاهرات الأخرى وهي كثيرة في الميدان السينمائي؟
هذه الأسئلة كنت طرحتها على نفسي في السنوات الفارطة وفي كل دورة عندما نشاهد كل هذه الجموع من الشباب تتدافع على القاعات لتجد موقع قدم وتشاهد ولو شيئا من هذه التخمة السينمائية والإبداع الذي يأخذ طريقه إلى قاعاتنا بمناسبة الأيام السينمائية لقرطاج.
كنت مساء الجمعة في حفل الافتتاح كعادتي منذ سنوات وكان هذا الحفل خاصا باعتباره يمثل الذكرى الخمسين لانطلاق هذا المهرجان. كان هناك الكثير من الأصدقاء الذين عرفتهم وأحببتهم واستمتعت كذلك بإبداعاتهم السينمائية وبأخلاقهم وكذلك بموسيقى أفلامهم أو بكتاباتهم النقدية في المجال السينمائي.
واللقاء كان فرصة للعودة إلى الذاكرة وإلى التاريخ الطويل الذي جمعني بهذه التظاهرة وجعلها إلى جانب مهرجان قليبية للسينمائيين الهواة وبعض المهرجانات الأخرى كمهرجان الحمامات قريبة من القلب وتحمل في طياتها جزءا من أحلامنا وآمالا بغد مشرق.
تذكرت سنوات بداية الشباب وكيف كنا نأتي من مدننا لنقضي أياما فيها الكثير من الفرح والانتظار وبعض الأحيان شيئ من الرهبة والانكسار ونحن نشاهد أفلاما من كل أنحاء العالم من البلدان العربية من إفريقيا من آسيا ومن أمريكا اللاتينية. أفلام كانت نافذتنا على العالم لنرى فيها آمالنا وانتماءنا إلى الحلم الكوني في بناء عالم جديد تدحر فيه الأنظمة البالية والتقليدية وتنتصر فيه العدالة والتضامن بين الشعوب.
هذا المهرجان على خلاف عديد المهرجانات والتظاهرات الأخرى لعب دورا هاما في تنمية الحس الفني وربطه بالصراع الاجتماعي والسياسي. فكان بذلك الإطار الذي احتضن آمال وأحلام أجيال كبيرة من الشباب ونمى ورعى إيمانها بغد آخر وبعالم تختفي فيه الفوارق وتسود فيه العدالة.
لنعد إلى سؤالنا الأول والأساسي كيف نفسر سحر وعبق وتأثير هذه التظاهرة على أجيال عديدة لدرجة جعلت من الشفاء من حبها صعبا بل قل مستحيلا ولماذا لا نشفى من حب الأيام السينمائية لقرطاج؟
وفي رأيي لإيجاد بعض الإجابات عن هذه التساؤلات لا بد من العودة إلى البدايات وإلى مشروع هذه التظاهرة عند انطلاقها لقد انطلقت هذه التظاهرة منذ خمسين سنة أي سنة 1966 على يد بعض المهووسين وأحباء السينما في بلادنا وعلى رأسهم المرحومان الطاهر شريعة وحمادي الصيد وبدعم من وزير الثقافة آنذاك السيد الشاذلي القليبي. ولم تكن أيام قرطاج السينمائية مجرد تظاهرة سينمائية بل كانت تنخرط في مشروع ثقافي متكامل لدولة الاستقلال. وكان هذا المشروع يهدف إلى بعث هوية ثقافية مستقلة لبلادنا تشكل أساس البرنامج السياسي الما بعد كولونيالي والذي يسعى لإعطاء هوية ثقافية متحررة ومنفتحة على العالم ومتشبعة بمبادئ الحداثة للدولة الجديدة.
ولم يقتصر هذا المشروع الثقافي على السينما بل شمل كل مجالات الإبداع الفني من مسرح ونثر وفنون تشكيلية ورقص وفنون شعبية وكل المجالات الفكرية الأخرى.
وحظي المجال السينمائي بنصيب هام من المشروع الثقافي للدولة الحديثة فجاءت التشريعات في المجال السينمائي كما تم بعث المؤسسات في ميدان الإنتاج السينمائي ومن أهمها مؤسسة الساتباك التي لعبت دورا كبيرا في مجال الإنتاج السينمائي وفي ظهور أولى نواتات الصناعة السينمائية في بلادنا.
وقد ساهمت هذه السياسات في بروز نشاط سينمائي متميز في بلادنا وظهور عديد الإنتاجات السينمائية والأشرطة في نهاية الستينات أذكر منها «الفلاقة» و»الفجر» لعمار الخليفي و«سجنان» و«حكاية بسيطة كهذه» لعبد اللطيف بن عمار و«شمس الضباع» لرضا الباهي و»فاطمة 75» لسلمى بكار والقائمة تطول.
وفي هذا الإطار وقع بعث أيام قرطاج السينمائية كحلقة مهمة في إطار هذا البرنامج أو المشروع الثقافي لدولة الاستقلال. وسيعمل شباب المناضلين السينمائيين كالطاهر شريعة على إعطاء هذه التظاهرة هوية خصوصية منذ بداياتها الأولى بجعلها منفتحة على قضايا البلدان النامية وبصفة خاصة على البلدان العربية وإفريقيا. وهذا الاختيار والانحياز لقضايا الحرب وإفريقيا سيجعل من أيام قرطاج السينمائية ملتقى ومنتدى مبدعي الجنوب ويجعلها إحدى أولى التظاهرات الثقافية والسينمائية التي تحمل آمال شعوب الجنوب في التحرر الوطني والانعتاق الاجتماعي.
إذن يكمن سحر وعبق الأيام السينمائية لقرطاج في البدايات وفي هذا القرار الثوري والمجنون بحمل آمال ومشروع الحلم في التحرر في الجنوب.
لكن هذا السحر وهذا الحب كان يمكن له أن يخبو وينتفي كالعديد مع الزمن عديد من قصص الوله والعشق. إلا أنه تواصل وتطور وكان قادرا على مدى السنوات على إيجاد الرحيق الذي يمكنه من إعادة إنتاج نفسه بأكثر سحر وعبق وحب. وفي رأيي فإن هذا الرحيق يكمن في قدرة أيام قرطاج السينمائية على النأي بعيدا عن عجز وأزمة الأنظمة الوطنية وصعود الاستبداد.
عرف المشروع الوطني والبرنامج الحداثي للدولة الوطنية حدوده منذ منتصف الستينات فقد تراجعت أغلب الأنظمة الوطنية عن مبادئ الحرية التي طالما جاءت بها في مرحلة الكفاح الوطني ليصبح مشروع الحداثة تحديثا استبداديا فظهر الاستبداد بالرأي ورفض التعدد وهيمنة الأحزاب الحاكمة على السلطة وعبادة الفرد والزعماء وشهدت هذه الفترة هيمنة الدولة والسلطة على الثقافة ومحاولة استيعابها والهيمنة عليها ونظمت عديد الأطر والمؤسسات الثقافية لهذه الهيمنة والاستبداد الحداثي إلا أن السينما بقي خارجا عن السرب وواصل الدفاع عن الحلم والأمل في بناء غد آخر وعالم مختلف.
وواصلت أيام قرطاج السينمائية وبالرغم من الضغوطات في حمل مشعل المعارضة والحلم والثورة مما ساهم في بقاء بريقها ومواصلة سحرها وتواصل عبقها.
وسيتأكد هذا السحر وخصوصية مهرجان قرطاج السينمائي مع صعود العولمة التي ستجعل من الإبداع والفعل الفني سلعة ككل السلع التجارية الأخرى وستشهد هذه الفترة في التسعينات ظهور عديد المهرجانات السينمائية في عديد بقاع العالم وكثير من البلدان الشقيقة وستجعل هذه المهرجانات من السينما سلعة تجارية تسوّق لها كما تسوّق لعديد السلع الأخرى. وستنتصر هذه المهرجانات الجديدة لشباك التذاكر وللنجومية إلا أن مهرجان قرطاج سيرفض الانخراط في هذه العولمة الجديدة ليبقى محافظا على خطه ومواصلة دعم الإبداع الفني والحلم والأمل في الكتابة السينمائية ورفض منطق السوق وهيمنة التجارة في السينما.
حاولت في هذا المقال تقديم بعض الآراء والأفكار لفهم هذا العبق الخاص والسحر والتأثير لأيام قرطاج السينمائية. جزء منه في البدايات وانحيازها لأحلام التحرر لوطني والانعتاق الاجتماعي وآخر في رفض الاستبداد وثالث في مناهضة عولمة السوق.
أسباب تفسر إقبال الشباب على هذه التظاهرة وتفسر خصوصياتها وتجعل يا محمود الشفاء من حبها صعبا إن لم نقل مستحيلا. ولعل أحسن الحلول في الشفاء من هذه الآفة هو في الإدمان على السينما.
سلاما عليك يا محمود
عمرا طويلا لأيام قرطاج السينمائية
وحبا وهياما وعشقا لتونس.