للمخرج عبد الفتاح الكامل، عن الانتحار و الموت قدمت مجموعة من ابناء سيدي بوزيد عملها “كوردة” تمثيل انتصار عبد السلام، وحسنة دخيل و صالح الجلالي و اشراف الغريبي وقيس عمارة.
كوردة قدمت في اطار تظاهرة القيروان المسرح التي تحتضن فعالياتها قاعة الريو بالعاصمة هي “حلمة” كما قال الفنان حسام الغريبي وتندرج في اطار رغبة المركز في تقديم عروضه لجمهور الفن الرابع في العاصمة.
في الريو يكون الموعد طيلة الاسبوع مع قيروان المسرح اعمال لشباب يؤمن بالفن البديل، شباب يؤمن بضرورة افتكاك حقوقهم في الفن، ويؤمنون ان للجهات نصيبها من الابداع لو سلط عليهم ضوء الاعلام لاكتشفوا كنوزا من الممثلين والمخرجين والمبدعين الذين يعملون في صمت وينحتون تجاربهم الذاتية من الفراغ.
تشريح فني لظاهرة الانتحار
هامات مشنوقة، وعرائس على الركح كجثث هامدة سرقت منها أرواحها... داخل القاعة توزّع الممثلون على كامل الفضاء يدورون على ذواتهم كجنين في بطن امه، نظرات زائغة هائمة كأنها تبحث عن حقيقة منسية، لدرجة ان يشعر المتفرج انه جزء من الحكاية، ثم يقدمون انفسهم، قيس عمارة وحسنة دخيل وصالح جلالي و اشراف الغريبي، ثم يقدمون للحكاية ويعرف المتفرج ان قصة المسرحية ولدت في الليلة الفاصلة بين 5و6جوان حين سمع صالح الجلالي بانتحار شقيقه، فما دوافع الانتحار؟ وكيف يتعامل مع الظاهرة التي انتشرت خاصة في ريف العلا من ولاية القيروان اسئلة اراد من خلالها المخرج والممثلون معالجة ظاهرة اجتماعية بطريقة فنية وتشريحها مسرحيا، ثم تكون الشرارة انتحار عائشة البدري.
من قرار عائشة بشنق جسدها فوق الصفصافة الى حكايات تؤلف بخصوص موتها فقصائد تكتب فيها لدرجة ان يصبح الموت حركة عبثية، من حكاية واقعية انطلقت المسرحية لتعالج العديد من القضايا التي تشغل ذهن ابناء الريف، من ريف العلا من ولاية القيروان فريف الرقاب وسيدي بوزيد والأرياف المجاورة ترعرت قضايا الضيم والتمييز وولدت عنفا تجاه الذات و تجاه الحياة ذاتها فتمرد بعضهم على الرغبة في الحياة وقرر وضع حد لأنفاسه لتنتشر ظاهرة الانتحار.
تعود احداث العمل الى انتحار عائشة ، فتاة ريفية جمالها سحر الشعراء وعشقها اصاب قلوب الشباب، عائشة الجميلة المدللة قررت الانتحار وتركت وراءها رسالة كتبت فيها «لست الجازية» ومن موتها تنطلق الحكايات والاشاعات، عم يمنع ابنه من حضور جنازتها، ام تعاتب ابنتها الميتة وتتبرأ منها وتسأل من الذي تلاعب بشرفها حتى تقدم على الانتحار فالفتاة لا تقدم على قتل نفسها ان لم يكن هناك رجلا في الحكاية حسب اعتقاد الام وكأننا بها تتحدث على لسان فرويد: (الناس لا يمتلكون القدرة أو الكفاية النفسية على أن يمارسوا العنف ضد غريزة الحياة بقتلهم لأنفسهم ، ما لم يكونوا بعملهم هذا يقتلون أيضاً موضوعاً حبيباً توحدّوا فيه).
فصديقات ينفين الخبر ويؤكدن نزاهتتها، وسكارى يتذكرون خصالها، لكل انسان وجهة نظره في حكاية الانتحار لكل طريقة خاصة في معالجة الامور بعضهم يتحدث عن الحرام وآخرون يبحثون عن سبب مقنع، وبين الاشاعة والتكهنات تضيع الحقيقة فوحده الميت يعرف حقيقة وسبب اقدامه على وضح حد لحياته.
ضوء اصفر يقترب الى الارجواني، لون مقلق يقلق العين والنفس قلق مقصود ليعيش المتفرج حكاية المسرحية ويذهب بمخيلته هناك الى الارياف المنسية، يتجول فيها يرى جمال الطبيعة مقابل الفقر الانساني، يتجول في الارياف ويعانق معاناة سكان الارياف المبعدين والمنسيين اولئك الذين لا يتذكرهم الساسة إلا في الحملات الانتخابية.
فأقمشة شفافة تقسم الركح وخلفها يغير الممثل ثيابه لاقتباس شخصية جديدة، ستار مكشوف ليكون المتفرج جزء من اللعبة الدرامية ويقترب اكثر من الحكاية، موسيقى مميزة تشد الانتباه ابدع عبد الفتاح الكامل في توظيفها وقدرة الممثلين على شد انتباه المتفرج وخاصة الممثل قيس عمارة ابدع في دور العاشق ،عاشق اصابه الحب ونال منه العشق فتفتت روحه بعد موت حبيبته وقال في “عيشة” اجمل القصائد، على الركح رقص وبكى ، انتفض انتفاضة طفل صغير فقد امه و هاجت دموعه كمن فقد عزيزا لا يعوض، اقنع الجمهور وتصفيقهم كان دليل اعجاب.
طيلة 50 دقيقة تساءل فيها الممثلون بطريقة فنية عن اسباب انتحار عيشة، هل تعذبت؟ هل ندمت قبل اقدامها على شنق نفسها؟ اهو الالم وعدم الرضا عن الواقع أم يأس من الحياة ورغبة في راحة ابدية؟ اسئلة كثيرة شرحها الممثلون على الركح، عملية تشريح فني تحدثت عن الانتحار كدافع عدواني يصدر من غريزة الموت ، وأن الانتحار ما هو إلا نوع من التوق والاشتياق للعودة إلى العدم الذي خبرناه قبل الولادة « كما جاء في فلسفة فرويد.
المرا الريفية، مناضلة تجاهد الحياة وتعاندها
«عيشة» بطلة الحكاية وغيرها كثيرات، مناضلة تعاند قساوة الحياة، منذ الشباب وهي تعمل في الضيعات الفلاحية البعيدة، منهكة جهد كثير ومال قليل، عيشة هي قصة العديد من نسوة هذا الوطن اولئك العاملات في الحقول اللواتي يجهدن انفسهن مقابل بضعة دنانير، كيف يقبلن على الحياة؟ وما طعم الحياة عندهنّ وهن يبذلن نفس المجهود فقط يتغير الفعل من جني الزيتون شتاء الى حصاد القمح صيفا فجني اللوز خريفا ثم حرث الارض والعناية بالأشجار المثمرة ربيعا، اربعة فصول تمر وهنّ منهكات مجهدات يعملن دون انتظار شكر او جزاء، عيشة كغيرها من نساء الريف يعاندن الحياة و يحفرن في صخر اليأس فقط ليعملن.
على الركح تتحدث احداهنّ عن عيشة باكية، هنّ يبكين حظّا عاثرا يبكين حقوقا مسلوبة وعرقا مسروقا وجهدا ضائعا، يبكين وجيعة انهن نسوة هذه البلاد اليسوا «نساء بلادي نساء ونصف” وهن نساء وثلاثة ارباع ولكنهنّ نصف انسان في الحقوق ونصف انسان في الشغل وانسان الا ربع في برنامج الدولة التنموي التشيغلي، هنّ سند الرجل وعماد البيت ولكنهنّ مهمّشات ومنسيات، لمزيد تسليط الضوء على حقوق المراة الريفية قدمت «كوردة».
القيروان للمسرح، فرصة ليشاهد جمهور تونس اعمال المركز الوطني للفنون الركحية والدرامية بالقيروان، لقاء اول مع فرقة مسرحية من سيدي بوزيد اندرج في سياق انفتاح المركز على الولايات المجاورة، هناك اين يسكن الابداع جل الاطفال والشباب ولكن تنقصهم فرص التعبير، «كوردة» عمل اكد معه ابناء سيدي بوزيد انهم قادرون على شد انتباه المتفرج بتقنيات بسيطة ولعبة درامية سلسلة جعلوا جمهور «الريو» يعيد التفكير في العديد من المسائل التي تشغل سكان الأرياف قيروان المسرح فرصة لاكتشاف خبايا مبدعين يعملون في جهاتهم في صمت يعاندون قليات رافضة للفن و يناقشون «أناسا أصماء» لا يفقهون قيمة المسرح ينحتون في صخر التجاهل ليقدموا أعمالا تتحدث عنهم، ربما لام البعض على واقعية الحدث والتمثيل ولكنهم تحدثوا عن ظاهرة يعايشونها ويعيشونها، تحدثوا عن امهاتهم وأخواتهم عن نساء القرية وابن العم والجيران، تحدثوا عن حقوق مسلوبة يعرفون جزئياتها لانهم جزء من الحكاية.