الحركة البيئية في تونس (15): البيئة المنشودة والحلقة المفقودة والثقافة الموعودة

ما تزال أهم الأسئلة التي تحوم حول إشكالات الحال البيئي، تتعلق بمصدر الخلل، وتطرح من جديد استفهامات متجددة وعالقة، حول أي المداخل لتلافي ما حصل ويجري في ساحاتنا العامة ومقدراتنا البيولوجية ومنظوماتنا الإيكولوجية، ومواردنا الهشة والمحدودة؟

هل يتوجب تقوية التشريعات وتكثيف التراتيب الرادعة، أم تعزيز أجهزة الرقابة وفرق المراقبين البيئيين والبلديين (شرطة خضراء؟) التي لا تكاد ترى لتناهيها في الصغر بالنسبة لحجم المؤسسات والأطراف الملوثة ، أو المعنية بالرقابة البيئية؟

أم هنالك نقطة أخرى ومجال للتحرك والتفكير والتعاون لا تعوض ولكن تتكامل مع باقية الخطوات والتدابير، الفنية والتشريعية، وتخص تنمية الوعي، وتهيئة الظروف النفسية والذهنية لتبديل السلوك الفردي والجماعي.

تشخيص,..من أجل الخلاص 

لماذا لا يتبنى كل المواطنين سلوكا راقيا بل لائقا، ونرى كل يوم مواطنين يلقون الفضلات من منديل اليد وأعقاب السجائر إلى نفايات الهدم والبناء، في الطريق العام؟ الجواب دون شك معقدة، التونسي ليس مقتنعا تماما بأن البيئة تعنيه، وأنه معني بمحيطه المباشر، أو لنقل أنه لم يتم بعد إنضاج رؤية شاملة تتبناها قوى المجتمع بمكوناته.

لقد تحتم التقاء الجميع حول الإشكال الكبير، الذي يخص علاقة المواطن ببيئته، ومن ثم بوعيه وضميره، ومجتمعه ودولته.

إنه التشخيص المطلوب بطرح السؤال الحقيقي الموصل لطريق الخلاص.

فالخلل يبدو لأول وهلة في أشخاص غير مسؤولين، وربما قليلي الأدب، وفاقدي الحياء والقيمة الخلقية المطلوبة بالالتزام بحد أدنى من آداب الطريق مثلا، وهي بذلك مسألة ترتبط بمشكل جوهري يخص ما تلقاه المجتمع بفئاته عبر سلسلة من البرامج والتدخلات والسياسات والرسائل و..من قيم ومفاهيم ومبادىء، ولدت نوعا من التعالي وحتى الازدراء لقيمة النظافة، وعدم الشعور بالارتباط القوي بالمكتسبات البيئية العامة والمشتركة، حتى أن كثيرين يعتبرون الممتلكات العامة، ومنها الموارد البيئية من مساحات خضراء، وساحات عامة، وحدائق ومياه وهي غنائم ، تنتهك ويتوجب الأخذ منها بنهم وبلا حد.

إنها عقلية «البيليك «تنطبق لحد كبير على سلوك الفرد والمجموعة تجاه مكونات البيئة، وهي من ثمرات سياسات متداخلة ولدت هذا النوع من التجاهل لقداسة العمومي المشترك، وبالأخص الثروات البيئية والطبيعية النادرة والمهددة بالتلاشي والفناء.

وهي ثقافة الخلاص الفردي، التي نشأ عليها التونسي عموما، بفعل سياسات ليبرالية، عمقت الفردانية وعمقت الرغبات المحمومة في الكسب والتوسع والأخذ في غفلة من الرقيب، وإن حضر، يروض، بما تيسر من»إكرامية».

هي ببساطة متعسفة أزمة ضمير بيئي جمعي مفترض حوصر ، فطلب اللجوء إلى مجسمات محنطة، استعيض بها عن الفكر والوعي والسلوك البيئي القويم، وفي الأثناء يطرح مجددا، ما ذا صنع لبيب، وماذا صنع به خصومه، في لحظة ثورية منفلتة؟

إنعاش مؤسسات التنشئة
تظل التنشئة هي الحل، فهي مربط الفرس وبيت القصيد ، فهي المدخل لتعديل الأوتار وتهيئة أسباب التغير في عمق المحركات النفسية والذهنية المشكلة للتصرفات الفردية والجماعية

أن التنشئة الاجتماعية تعني عملية إكساب الفرد الخصائص الأساسية للمجتمع الذي يعيش فيه ممثله في القيم والاتجاهات والأعراف السائدة في مجتمعه ومعايير السلوك الاجتماعي المرغوب في هذا المجتمع، وهي عملية مستمرة عبر زمن متصل تبدأ من اللحظات الأولى من حياة الفرد إلى وفاته

وتشير قراءة متأنية في مسار تجارب الدول الناهضة والمتقدمة تنمويا وبيئيا، إلى أن كل الأجهزة تضافرت لتحقيق أهداف مشتركة، وتوجيه القطار المشترك نحو وجهة واضحة وموحدة.

في ألمانيا واليابان وكوريا وغيرها، التقت الشعوب دولا ومنظمات ومربين وإعلاما ورجال دين ومشرعين ومستثمرين وخواص..على قضية واحدة، واحتشدوا على قلب رجل واحد.

تحرك الناس لتشكيل قوة جماعية تعمل على تنزيل المشروع وتكريس حلم جماعي، يخص نمو الأمة وإقلاع المجتمع، وتحقيق غايات يبذل لها الجميع الغالي والنفيس ويضحون بما يملكون، يقرؤون عنها ويرونها في التلفاز، ويهتمون بها في المدارس، وينتصرون لها في البرلمان.

مطلوب أن تتوافق مؤسسات المجتمع من الأسرة التربية مرورا بالجمعيات كفضاءات التنشئة الثانوية وغيرها من الهياكل والوزارات والمجموعات المهنية وخاصة النخب الموجهة وقيادات الرأي والمبدعون والوعاظ وسائل الاتصال لاستقطاب مجموعات المتساكنين والفئات العريضة نحو تبني شبه إلزامي للقضية البيئية باعتبارها استتباعا للانتساب للحمى أو الوطن، وجزءا من ترجمة الوفاء والعرفان له.

فاحترام البيئة واجب ملزم، وفرض عين، ودليل مواطنة ومؤشر انتماء لمجموعة تكرس بالفعل مستلزمات إنشاء «المدينة الفاضلة»أوبالأصح..تونس الخضراء..

ليس في ذلك تهويما طوباويا، أو ضربا من الخيال، فالتحرك العملي الجاري في عقول المئات من المتطوعين في مختلف الجهات، من حملة مشاريع ومبادرات بيئية، تتراوح من التنظيف المستمر، للتوعية، لإنشاء عادات سلوكية بديلة، كالامتناع عن استعمال أكياس البلاستيك الضارة بالبيئة، والممارسات المسؤولة بيئيا كترشيد الاستهلاك، والإقبال على المنتوجات البيولوجية، وتطوير مسالك السياحة الإيكولوجية وتنمية المؤسسات الخضراء والبناء الصديق للبيئة.

كل الطرق موصلة لروما، والفنون والتعبيرات والتقنيات والبحوث والتجارب، نافذة لغاية بيئية معلومة,
لا بد من صنعاء (وهي هنا منتهى مرام حبيب البيئة لبيب)، وإن طال السفر، إنها الوجهة الجماعية المطلوب تحديدها وضبط كافة البوصلات، وتعدل العقارب لتشد لها الرحال.

التربية على الثقافة البيئية
الثقافة البيئية هي وليدة التربية والتنشئة عامة في المجتمع،و تهدف «الثقافة البيئية» إلى فهم وتعلم الوعي و المعرفة البيئية الأساسية بهدف تنمية السلوك البيئي الإيجابي والدائم منذ الصغر، والذي هو بمثابة الشرط الأساسي كي يستطيع كل إنسان ومنذ الطفولة أن يؤدي دوره بشكل فعّال في حماية البيئة وبالتالي المساهمة في الحفاظ على صحته من خلال محافظته على بيئته المحلية والبيئة العامة التي تشمل كل الأرض وبما فيها من كائنات حية وموارد . وهنا تكمن أهمية الثقافة البيئية والسعي الدؤوب لتطويرها، بغية نشرها وإنضاجها لتتحول إلى ثقافة ثابتة وقادرة على أن تأخذ دورها في حياتنا اليومية من بيته أولا ومن ثم من خلال مدرسته عبر المناهج التعليمية في كافة المراحل الدراسية بهدف تنشئة أجيال مثقفة بيئيا تعي مفهوم البيئية وكيفية التعامل معها في كافة الأنشطة البشرية , وفيما يلي نذكر أهم تلك الأهداف :

وتتمثل الأهداف العامة للتربية البيئية في ما يلي:
- تنمية القيم الأخلاقية لدى التلاميذ والطلاب بشكل يساعد في تفعيل العلاقة الإيجابية بين الإنسان والبيئة.
- إيقاظ الوعي حول العوامل الأساسية المسببة للمشاكل البيئية.
- التركيز علي تنشئة التلاميذ وفق الثقافة البيئية من خلال التنشئة والتربية البيئة التي تهدف الي اكتساب الفرد منذ الصغر الإتجاهات الإيجابية إتجاه بيئته المحيطة.
- إكساب الفرد السلوكيات الإيجابية الغير عدائية من خلال مناهج التربية البيئية المصممة لتحقيق هذا الهدف وإستعمال الطرق التعليمية المدروسة والتي تتفق وطبيعتها لتساعد في تكوين آلية للسلوك البيئي المسؤول.

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115