يتنهد البعض ويتساءل البعض الأخر ويضيع السؤال بين..قلة التربية والأنانية وغياب الاهتمام بالبيئة في أولويات الفرد وتدني مستوى نمو بلادنا وتقدمها الشامل، وغياب المتابعة والمراكمة والتخطيط الجماعي المستمر، فلا بيئة قبل الكفاف والاكتفاء والتطور في المناحي الاقتصادية والاجتماعية.. ويذهب البعض الآخر لتأويلات مختلفة.
بعضهم يتأمل في مبادرات دول تهتم بالبيئة وقضاياها بكافة أبعادها بعيدا عن نفق القمامة والعمل البلدي والبرباشة وجمع نفايات البيئة الحضرية.
أسئلة حائرة لا يكررها البعض ممن يرون بعض السدود الذاتية والعوائق المتراكمة في طريق بناء سياسة بيئية ورؤية للتنمية المستدامة ومقاربة لدولة ومجتمع يتبنى المواصفات والضوابط البيئية.
يتنهد البعض وهو يسرح بعيدا عن مفارقات تجربتنا الغريبة المتهافتة ويتملى بمتابعة ملامح التجارب الغربية وحتى الإفريقية.
وإذا توجهنا مثلا إلى ألمانيا مثلا وفي مدينة «لايبزيغ» (Leipzig) الواقعة في ولاية ساكسونيا شرق ألمانيا والتي يبلغ عدد سكانها نحو نصف مليون نسمة. على سطح مبنى مرتفع تابع لمعهد «هلمهولتس» في نفس المدينة، والمختص بالأبحاث البيئية، نرى بوضوح مصنعًا ضخما لشركة «بي. إم دبليو» (B.M.W.) حيث يتم إنتاج سيارات كهربائية لا ينبعث منها تلوث أثناء حركتها. بمحاذاة المصنع تعمل طواحين الهواء التي تنتج طاقة نظيفة. معهد الأبحاث ذاته يساهم أيضا في المجهود البيئي؛ فجدران المبنى الممتدة من السطح وحتى الطابق الأرضي مغطاة بألواح الخلايا الشمسية التي تنتج الكهرباء من الطاقة الشمسية.
وترمز هذه البنية التحتية البيئية المثيرة للإعجاب إلى المكانة المرموقة التي تحتلها ألمانيا في طليعة الدول المتقدمة التي أعلنت عن التزامها بالنمو الاقتصادي الذي لا يأتي على حساب البيئة، وخاصة من خلال استخدام التكنولوجيا الخضراء. لكن، رغم ذلك، فإن الواقع أكثر تعقيدا، إذ أن ألمانيا تواصل استهلاك موارد بيئية كثيرة كي تحافظ على اقتصادها وعلى المستوى المرتفع لاستهلاك مواطنيها.
يقول المشهد العام في ألمانيا بأن الأخيرة تبنت سياسة ترتكز على استعمال التكنولوجيا الخضراء وبالتالي منع نشوء التلوث من المصدر؛ ما يعتبر تحولا من السياسة السابقة القائمة على معالجة التلوث الناتج عن منشآتها وعن مصانعها ومركباتها. الحكومة الألمانية تعمل على التحول نحو نموذج «الاقتصاد الدائري» (circulareconomy) الذي يتميز بعدم خروج الموارد التي تم استهلاكها من دائرة الاستعمال. فبدلا من أن تتحول تلك الموارد إلى ملوثات للبيئة، يعاد استعمالها كمواد خام، أو تستخدم، من بين أمور أخرى، لإنتاج الطاقة. كما أن تصميم المنتجات آخذ في التغير؛ إذ يفترض به أن يكون أكثر توفيرا (للطاقة) وأن يطيل عمر المنتج. وفي المحصلة، من خلال هذا التوجه، توفر الصناعة كميات المواد الخام والطاقة والمياه المستخدمة، بالإضافة إلى تقليص التكلفة في وسائل معالجة التلوث.
ومن المعروف أن ألمانيا تحترم مهندسيها الذين يمتازون بابتكار حلول للعديد من المشاكل الفنية والتقنية. اللافت أن التشريع والسياسة يساهمان في التحرك الألماني بهذا الاتجاه البيئي الجديد. فعلى سبيل المثال، منذ نحو عشر سنوات، يمنع دفن النفايات المختلطة التي لم يتم فرزها لأغراض الفصل. وقد أجبر هذا المنع الجهات العاملة في مجال التخلص من النفايات، أن تطور طرقا جديدة لتدوير النفايات أو استغلالها لإنتاج الطاقة. وقد شكل القرار الحكومي الألماني بإغلاق المفاعلات النووية المنتجة للكهرباء، محفزا لتطوير منشآت بديلة لإنتاج الكهرباء من طاقة الرياح والشمس.
ويطالب عدد متزايد من الناس في جميع أنحاء العالم، بدءاً من الاحتجاجات الطلابية إلى الحركات البيئية مثل «تمرد الانقراض»، الشركات والحكومات بمعالجة التداعيات المتزايدة لتغيُّر المناخ. في حين لازالت هناك حاجة ماسة لخفض انبعاثات الغازات الدفيئة، بدأت بعض الدول إقرار سياسات تهدف إلى تقليل استهلاك المواد البلاستيكية وحماية الحشرات والحد من استخدام السيارات.
كما يلاحظ انتشار الحظر المفروض على المنتجات البلاستيكية ذات الاستخدام الواحد، ويدخل إلى المحيط كل دقيقة ما يعادل شاحنة قمامة مليئة بالنفايات البلاستيكية ذات الاستخدام الواحد. لذا، تحاول الدول في جميع أنحاء العالم تقليل استهلاك المنتجات البلاستيكية ذات الاستخدام الواحد، مثل الأكياس والزجاجات وعبوات التعبئة والتغليف، للحد من هذا التلوث.
وتشمل قائمة الدول التي حظرت تلك المنتجات بشكلٍ من الأشكال: رواندا وفرنسا ونيودلهي، جامايكا وتايوان والمغرب وكينيا وغيرها. ووفقاً لتقرير صادر عن منظمة الأمم المتحدة، ثمة 127 دولة لديها بالفعل قوانين تحظر استخدام منتجات البلاستيك أحادية الاستخدام أو تعمل في سبيل سن مثل هذه القوانين.
نفايات بلاستيكية في البحار
وصادق الاتحاد الأوروبي مؤخراً على مقترح لحظر المواد البلاستيكية ذات الاستخدام الواحد بهدف وقف إنتاج 10 منتجات منها، من بينها مصاصات الشرب البلاستيكية، ابتداءً من عام 2021. ويهدف هذا القرار أيضاً إلى تشجيع إنتاج مواد أكثر استدامة لا تضر بالبيئة بدلاً من المنتجات البلاستيكية أحادية الاستخدام.
ويعدّ حظر الأكياس البلاستيكية في كينيا أحد أكثر القوانين صرامة في هذا الشأن فحظر كينيا المفروض على استخدام الأكياس البلاستيكية، والذي دخل حيز التنفيذ في عام 2017، أحد أكثر القوانين البيئية صرامة في هذه القائمة. إذ ينص القانون على أنَّ أي شخص في كيني يضبط وهو يبيع أو يصنع أو يحمل أكياساً بلاستيكية قد يواجه عقوبةً تصل إلى 4 سنوات السجن أو دفع غرامة مالية تصل إلى 38 ألف دولار.
كما يتم تخصيص مناطق في بعض الأماكن يحظر فيها مرور السيارات أو أيام بدون سيارات وتُحدِّد كثيرٌ من المدن حول العالم مساحاتٍ مُخصَّصة للمشاة فقط. لكن ثمة زيادة مطردة في عدد الأماكن التي تبدأ في توسيع تلك المساحات والحد من استخدام السيارات لفترات زمنية أطول. على سبيل المثال، تخلو بعض الجزر الصغيرة في كرواتيا من السيارات تماماً وتحظر العديد من المدن في سويسرا استخدام السيارات، بالإضافة إلى أنَّه يوجد عدد كبير من القرى والبلدات والمدن الأخرى تفرض أياماً محددة يُستغنى فيها عن السيارات (أيام بدون سيارات).
تحمي تلك السياسات كلاً من سلامة المشاة وتقلل من انبعاثات ثاني أكسيد الكربون. وقد جدت بعض المدن أنَّ مثل هذه الأشكال من الحظر قد تساهم في تقليل المواد الجسيمية. فوفقاً لصحيفة The Washington Post الأمريكية، شهدت العاصمة الصينية بكين، التي تحظر استخدام السيارات مرة واحدة في الأسبوع، انخفاضاً بنسبة 9 % تقريباً في انبعاثات الكربون. في الوقت نفسه، لم تُحقّق مدينة مكسيكو سيتي نجاحاً مماثلاً على الرغم من أنَّها تفرض نفس إجراء الحظر.
التزام الاتحاد الأوروبي بحظر مبيدات حشرية تضر بالنحل
يساعد النحل في تلقيح النباتات، التي تؤمن جزءا كبيرا من إمداداتنا الغذائية. لكن يُعتقد أنَّ بعض المبيدات الشائعة تضر بالنحل (وكذلك الطيور أحياناً).
ولهذا، أقرَّ الاتحاد الأوروبي في عام 2018 حظر استخدام 3 مبيدات حشرية في الهواء الطلق هي: كلوثياندينوايميداكلوبريدوثيامثوكسام. وقد ذهبت فرنسا إلى أبعد من ذلك، إذ حظرت استخدام خمسة أنواع من المبيدات، التي يُعتقد أنَّها تضر بالنحل، سواء في الحقول الخارجية أو الصوبات الزراعية.
بوليفيا منحت الكوكب حقوقاً قانونية خاصة به
سنَّت بوليفيا في عام 2010 قانون «حقوق الأرض الأم»، الذي منح حقوقاً قانونية لكوكب الأرض تشمل الحق في الهواء النظيف والمياه النظيفة والنظم الإيكولوجية الخالية من التلوث والتنوع البيولوجي. من الناحية النظرية، يعطي القانون كوكب الأرض نفس الحقوق القانونية التي يتمتع بها أي فرد في المجتمع.
وحتى الآن، لا زال بعض نشطاء حماية البيئة يأملون في رؤية هذا القانون يدفع نحو اتّخاذ مزيد من الإجراءات، لكن بعض الأماكن الأخرى حذت حذو بوليفيا. إذ منحت نيوزيلندا، على سبيل المثال، وضعاً قانونياً لنهرها وانغانوي.
النرويج تعتمد إجراءاتٍ صارمة ضد إزالة الغابات داخل حدودها وخارجها
تتواصل ظاهرة إزالة الغابات بمعدلات تدعو إلى القلق على التعدين والزراعة مما قد يؤدي تقليل مساحات الأشجار إلى العديد من الأضرار البيئية، من بينها تعطيل النظم الإيكولوجية وارتفاع مستويات ثاني أكسيد الكربون التي تدخل الغلاف الجوي، مما يساهم في تغيُّرات مناخية.
اعتمدت النرويج قانوناً في عام 2016 يهدف إلى وقف جرائم إزالة الغابات لتصل الى المستوى «صفر»، والذي يحظر على البلاد استيراد بضائع أو مواد مرتبطة بإزالة الغابات. كذلك، لا تستطيع الحكومة منح عقود للشركات المتورطة في إزالة الغابات. وكانت النرويج أول دولة تقر مثل هذه السياسة.
كما انضمت النرويج إلى مجموعة من المؤسسات الخيرية البيئية في عام 2018 وتعهدت بتخصيص مبلغ 500 مليون دولار لمكافحة إزالة الغابات في النرويج وكذلك في إندونيسيا والبرازيل. وقد أقرَّ التعهد أيضاً بحقوق المجتمعات المحلية الأصلية في أنَّ تصبح مشرفة على حماية الغابات في مناطقها.
السويد وتشجيع المواطنين على إعادة استخدام الأغراض القديمة
يبدو من الأسهل أحياناً أن نتخلّص من شيء مكسور ونشتري آخر جديد، سواء أكان ذلك بنطال جينز أو جهاز ميكروويف أو هاتف محمول أو آلة قص العشب. لكن هذا يساهم في توليد جبال من النفايات تتزايد باستمرار في جميع أنحاء العالم.
ومن ثمَّ، تُقدّم السويد حافزاً ضريبياً يُخفّض الضريبة على أعمال الإصلاحات بمقدار النصف لحث مواطنيها على إصلاح وإعادة استخدام الأغراض بدلاً من رميها.
جمهورية بالاو تنشئ منطقةً خالية من الصيد بحجم إسبانيا
قد يؤدي الصيد الجائر -ويعني صيد الأسماك بمعدل يفوق قدرة الأحياء البحرية على التعافى منه– إلى حدوث خلل في السلسلة الغذائية، مما يؤدي إلى انهيار النظم الإيكولوجية الهشة.
واجهت جزيرة بالاو هذا التهديد في عام 2014 من خلال إنشاء منطقة يمنع الصيد فيها تبلغ مساحتها حوالي 630 ألف كيلومتر مربع، أو تقريباً بحجم مساحة إسبانيا. سنَّت بالاو تدابير أخرى لحماية المياه المحيطة بها أيضاً. إذ أنشأت أول ملجأ لأسماك القرش في العالم عام 2009، ومن المقرر أيضاً أن تحظر بعض أنواع الواقيات الشمسية في عام 2020 في محاولة لحماية شعابها المرجانية من الضرر.
فرنسا تطبق قانونا للحد من هدر الأطعمة في المتاجر الكبرى
يجري التخلّص من حوالي ثلث جميع المواد الغذائية المزروعة في جميع أنحاء العالم بإلقائها في القمامة. ووفقاً لإذاعة Deutsche Welleالألمانية، تهدر فرنسا حوالي 7 ملايين طن من الطعام سنوياً.
وقد طبَّقت فرنسا قانوناً في عام 2016، والذي يُعد الأول من نوعه، للحد من المخلفات الغذائية. ألزمت فرنسا متاجر المواد الغذائية الكبرى بالتبرع بالأغذية غير المباعة لأولئك الذين يحتاجون إليها. وإذا لم يفعلوا ذلك، سيتعيّن عليهم دفع غرامة قدرها 3750 يورو.
ووفقًا لمحطة NPR الإذاعية الأمريكية، أبدى بعض أصحاب المتاجر والعديد من الأشخاص الذين يستفيدون من الطعام المُتبرّع به ردود فعل إيجابية بشأن هذا البرنامج.
الولايات المتحدة تعتمد قانوناً يهدف إلى منع المواد الكيميائية الخطرة
دخل قانون تعديلات الاستجابة البيئية الشاملة وإعادة التفويض (SuperfundAmendments and ReauthorizationAct- والمعروف باسم SARA) حيز التنفيذ في الولايات المتحدة في عام 1986 باعتباره تحديثاً لقانون سابق، وذلك عقب كارثة كيميائية في الهند أسفرت عن مقتل 3800 شخص.
أرسى قانون SARA قواعد بشأن كيفية تنظيف مواقع النفايات الخطرة ونصَّ على ضرورة إخطار مسؤولي الصحة العامة بالمرافق التي تحتوي على مواد خطرة –لاسيما بعد حدوث إطلاق مواد كيميائية.
يهدف هذا القانون إلى منع الكوارث البيئية والصحية في المستقبل، إذ يفرض غرامات تتراوح قيمتها بين 10 الآف دولار إلى 82,500 ألف دولار في حال عدم الامتثال.
الصين تطبِّق أكبر سياسة لتجارة الانبعاثات في العالم عام 2017
تضع سياسات تجارة الانبعاثات حداً أقصى على كمية انبعاثات الكربون المسموح بها. تختلف تفاصيل لوائح مثل هذه السياسات من مكانٍ إلى آخر. لكن بوجهٍ عام، تستطيع الشركات والمجموعات داخل قطاع معين تقديم عطاءات (أو شراء) كمية محدودة من الانبعاثات المسموح بها، ثم يمكنهم بعد ذلك بيع أو تبادل تلك المخصصات المشتراة فيما بينهم.
ونفّذت الصين برنامجاً عملاقاً لتجارة الانبعاثات في عام 2017 باعتباره استراتيجية لمعالجة مشكلة التلوث في البلاد. (تحرق الصين نصف إمدادات الفحم في العالم سنوياً) تستهدف تلك اللوائح بشكل أساسي الشركات التي تطلق ما لا يقل عن 26 ألف طن من ثاني أكسيد الكربون سنوياً، على الرغم من أنَّ الهدف من إطلاق البرنامج كان ليشمل ما يصل إلى 8 آلاف شركة في نهاية المطاف.
هذه ملامح من اهتمام دول العالم بقضايا البيئة التي تكاد تنحصر في المخيال العام عندنا في نظافة النهج ورفع القمامة وخضرة واكياس البلاستيك ومقاومة الحشرات.