لم نبارح نقطة الانحدار التي أدركناها أيام «الثورة» حيث تفنن كثيرون في سريالية فوضى الفضلات، وإبداعات الانفلات البيئي المتحرر من كل قيد حتى اسودت الآفاق وبلغنا من استباحة الملك العمومي كل مدى.
ضمير لبيب يختنق، محاصرا، ويتخفى في البلاد شريدا غريبا بلا مأوى..
حشرات، أودية، بلاستيك، ادخنة، حفر..هذه كل هموم البيئة؟
لم ننفذ بعد إلى قلب المعضلة، وغرقنا في مداواة ومعالجة موضعية وتعقيم واستئصال أورام و..لم نتقدم كثيرا حتى ينتعش الجسم البيئي المريض.
في غياب الرؤية، وانعدام الخارطة، تضيع موارد، وتخسر معارك، وتستمر الانهيارات والانكسارات وتقصر دروب التهاوي والانقراض..
لم نتعظ من دروس أمس قريب، حيث غيبت البيئة، وووريت في مناطق ظل، ونقلت عقوبيا إلى إبط وآخر، وخسرت البلاد ما خسرت من دعم دولي واستتباعات التراجع عن البيئة كأولوية حيوية، على أساس خلاصات سلبية وتقييمات مخيبة لتجارب وسياسات سابقة.
تبرير التقشف والاقتصاد، والنجاعة، رب عذر..فما هكذا تورد الإبل..
يوجد في النهر الأخضر ما لا يوجد في البحر الأحمر..
لذا كان أحرى النأي مسافة لتقدير الموقف والتأليف والمراكمة لاستنتاج موضوعي وبناء مقاربة تستأنس من رؤى العارفين والخبراء، وتحمل من بصمات المعرفة بمخزون التجارب المحلية والدولية بين الهياكل والمنظمات والمعنيين بالشأن البيئي بمعناه الذي يجاوز حدود النظافة والتلوث الحضري على أهميته.
بعد شهرين تحتضن بولونيا مؤتمرا عالميا هو كوب 24 يتطارح فيه الفاعلون من شتى الأطياف والدول والأطراف والحكومات وقوى الضغط وغيرها رؤى ومشاريع وبرامج تستهدف إقرار ما يمكن أن يعدل مسار النهاية المتسارعة الوشيكة للكوكب وساكنيه بفعل سياسات ونمط حياة يقر التوجه الإرادي نحو النهاية المحتومة.
والمتأمل في تفاصيل ذلك الحدث وأجندته ، الذي ستحضر فيه بلادنا، ايا كان مستوى التمثيل وفاعلية المشاركة، يعي أن المسألة البيئية هي المبتدأ والخبر، وهي، غن اعتمدت، بعيدا عن الأهواء ومنحدرات الحس الشائع ومطبات النزاعات والحسابات والعقابات، تنطوي على مكامن النجاح، وبوارق الخروج من الأزمات والمآزق.
البيئة أوسع وأعلى من مجرد خدمات آنية، وتدخلات تؤديها مصالح وهياكل وإدارات..
في صناديق الدعم وآليات النمو النظيف منها الصندوق الأخضر للمناخ وصندوق الكربون وغيرها من عشرات بل مئات خطوط التمويل والميزانيات المرصودة بهيئات أممية وإقليمية، ما لو جندت له فرق من خبرائنا في ظل رؤية وسياسة واضحة ومحكمة التصويب لتسنى تعبئة عشرات بل مئات الملايين من الدولارات بما يغني الخزينة العامة عن اعتمادات تصرف لبعض المشاريع والبرامج وحتى المرافق في قطاعات شتى ليست فقط مصبات ومحطات تطهير، فالبيئة مجال أفقي شامل لكافة مناشط الحياة والتنمية، والاندراج الذكي في تلك الآليات والبرامج، بالاستئناس بأهل الخبرة والرأي عندنا، وهم كثيرون، يضخ للدولة مقادير بلا حد هي أحوج ما تكون إليها، مع ضمان التمشي الجدي في تكريس التنمية المستدامة والإجابة عن أسئلة واستحقاقات حارقة.
في المدى القريب، يتحتم، تغيير النظرة القاصرة والسطحية للبيئة، التي تعزل عن محيطها وآفاقها، والمبادرة إلى تعزيز هيكلتها بعيدا عن التحجر الإداري أو العزل القطاعي، والانطلاق في تشكيل حلقة مفتوحة من المستشارين في مستوى رفيع تناط بهم مهمة رسم ملامح خارطة التحول البيئي وفق سياق الوطن والمرحلة، ورهانات الممكن والملزم إقليميا ودوليا..
هل يبادر أصحاب القضية بإنقاذ ما يمكن إنقاذه أم يزيدون غرقا في التفاصيل؟