يبدو ان الصدفة قادت يوما سينيمائيا شابا الى سواحل اقصى شبه جزيرة الوطن القبلي فاحب المكان فقام بتصوير فيلم وثائقي سماه « يا رايس الإبحار « نال الجائزة الأولى لاحدى دورات أيام قرطاج السينمائية.
الشريط يحكي قصة موسم صيد التن الأحمر على سواحل سيدي داود التابعة اداريا لمعتمدية الهوارية ويبدو ان مدة التصوير قد مكنت المخرج آنذاك من ان يكتشف عن قرب عالما ساحرا وهو عالم البحر وان يتعرف على اشخاص بسطاء لهم علاقة وطيدة بهذا العالم مثل المرحوم البشير الكبيرصاحب كنية «صحوبة» الذي كرمته الدورة الثانية لمهرجان حكايات البحر في اخر يوم لها عن طريق شهادات ابنه وبناته وأيضا عبر عرض صوره التي جسدت كلها علاقته الكبيرة بعالم البحر والتي تجسدت أيضا بكل المهن التي اختارها والتي انتهت به لان يكون حارس منارة الهوارية.
يبدو ان قصة العشق هذه كانت الدافع الرئيسي وراء قرار بعث مهرجان حكايات البحر (السينما والتنميةالمستدامة) كانت دورته الأولى في اول أسبوع من شهر سبتمبر الماضي والثانية في نفس الفترة من هذه السنة .
هذا المقال لن يكون مجرد نقد لتظاهرة فتية وانما هو محاولة محب يريد لهذا المهرجان ان يستمر وان يعانق الابداع من سنة الى أخرى ولذلك فاني ساكتب ملاحظاتي دون ان اجامل المنظمين (فريق هشام بن عمار وجمعية منتدى هرمايا ) ولكن أيضا دون ان اتجاهل العمل الرائع المنجز.
ملاحظتي الأولى ان أعمدة هذا الهرجان هي السينما عبر عروض مسائية تتعلق أساسا بعالم البحر وأيضا التنمية المستدامة وقد نجح المنظمون خلال الدورة الأولى في برمجة أفلام كثيرة نسبيا وذات جودة تراوحت بين الوثائقي والروائي استطيع ان ذكر منها الفيلم السينيغالي «الزورق» الذي حاز التانيت الذهبي لايام قرطاج السينمائية في احدى دوراتها السابقة والذي تعرض لمشكلة الهجرة السرية عبر البحر المتوسط وأيضا الفيلم الوثائقي الفرنسي «غدا» التي خرج للجمهور لأول مرة في شهر ديسمبر 2015 بمناسبة قمة المناخ بباريس والذي يترجم فلسفة الفرنسي من اصل جزائري «بيار رابحي» وجمعيته «كوليبري» حول طبيعة التنمية في المستقبل والتي يجب ان تكون متناغمة مع الطبيعة وقد تعزز هذا الطرح من خلال الشريط الكولومبي الألماني السويسري « La Buena Vida»
استطيع ان اذكر كذلك الشريط الإيطالي « الأرض المغلقة « وكذلك شريط «الكوكب الأزرق» الذي صور جماليات التنوع البيولوجي البحري وغيره من الأشرطة الوثائقية القصيرة التونسية التي كانت في اغلبها رائعة وشفعت بنقاشات .
هذا التنوع والذي كان احد أسباب تميز الدورة الأولى لم اشاهده في دورة هذه السنة لا من ناحية العدد ولا من ناحية الكيف فماذا يعني برمجة شريط تجاري امريكي حول القرصنة في البحر الكاراييبي بما فيه من لقطات عنف وانتقام بالنسبة لشباب نريد له ان يتعرف على الجماليات الحقيقية للسينما (رغم ان القرصنة هي أيضا حكاية مثيرة من حكايات البحر ) .
لو كنت مكان هشام بن عمار لبرمجت الفلم الوثائقي الإيطالي الرائع « Fuccomare والذي تناول بلغة سينيمائية رائعة قضية الجوانب الإنسانية للهجرة السرية الى جزيرة لمبدوزا الإيطالية والتي تهمنا مباشرة نحن التونسيين (الفيلم حائز على الدب الذهبي في مهرجان برلين السينمائي ) وكذلك لبرمجت الفيلم الفرنسي « En quete de sens والذي كان عبارة عن رحلة قام بها شابان فرنسيان حول العالم بحثا عن تجارب تنمية مستدامة ناجحة وأيضا استطيع ان افكر في الفيلم القديم لكوستو «عالم الصمت « (نال السعفة الذهبية في مهرجان كان السينمائي ) والذي لخص مغامرات القبطان الأشهر في العالم مع البحروالذي كانت سفينته «الكالبسو «تنطلق من ميناء موناكو الواقع على الضفة الشمالية للمتوسط المقابلة جغرافيا لسواحل الهوارية.
انا ادعو سي هشام بكل جدية بانيحاول برمجة هذه الافلام في الدورة القادمة لان هذا سيتناغم كثيرا مع روح المهرجان وأيضا سيمثل إضافة قيمة لشباب الهوارية كما ادعوه الى البحث عن أفلام وثائقية حول التنوع البيولوجي للبحر المتوسط لان الشباب لن يستطيع محبة البحر الا اذا عرف مكوناته وخصائصه .
انتقل الى الجانب الموازي للعروض السينمائية والتي هي في شكل ندوات وورشات واستضافات والتي أرى انها كانت في السنة الفارطة افضل فمثلا تم هذه السنة تخصيص يوم كامل سمي «يوم القراصنة» تم فيه تقديم محاضرتين حول القرصنة انطلاقا من السواحل التونسية اهم ما اكتشفنا فيه ان الدولة التونسية رعت وشجعت ومارست القرصنة واعطته غطاءا دينيا «الجهاد» وذلك طيلة قترة طويلة من وجودها .
تواصل التركيز على القرصنة من خلال ورشة مطولة لفائدة الأطفال تم خلالها تاطير كثير من الأطفال على صنع ملابس واسلحة وملامح القرصان وهذا ربما انتهى بالأطفال الى الاعجاب بشخصية الانسان «العنيف والمنتهز واللص» في وقت تعاني فيه تونس من عنف المتطرفين وانتهازية الفاسدسن واللصوص الذين اصبحو كثرا في بلادنا : هذا كان واضحا على الأقل من خلال الصور التي اخذت للصغار بملامحهم الجديدة .
هذا الى جانب ان هذا اليوم كان على حساب ركيزة مهمة من ركائز المهرجان وهو «التنمية المستدامة « اذ لم يخصص لهذا الجانب أي نشاط موازي بخلاف الدورة الأولى التي وقع فيها حضور مميز لجمعية « اوزيريس» العلمية التي قدمت نفسهاومجالات اهتمامها وأيضا قدمت شبابا تونسيين يعملون في مجال الاستدامة مثل انيس العويني الذي اخترع نظاما جديدا لانتاج الطاقة الكهربائية متناغما مع الطبيعة يقطع مع النظام الكلاسيكي كما قدم نموذجا لسفينة تتقدم دون مروحة مستوحاة من حركة السمك .
كما تم تقديم تجربة شاب تونسي متخرج قام بانشاء مشروعه الخاص في مجال جمع وفرز النفايات المنزلية .
ما اردت ان أقوله ان السينما المتنوعة والتنمية المستدامة كانتا نقطتا ضعف الدورة الثانية قياسا بالدورة الأولى .
انا اقترح على منظمي المهرجان إعادة تعزيز هذين الجانبين مع تطعيم المهرجان بفقرات أخرى قارة مثل إقرار مسابقة وطنية في مجال الصورة الفوتوغرافية في مجالات اهتمام المهرجان وأيضا التعريف في كل دورة بمسلك بيئي سياحي ينتهي الى معلم تاريخي او مكان له رمزية في المنطقة مثل المسلك الجبلي البحري الذي يؤدي الى «محرس ادار» برج الحراسة المطل على حوضي المتوسط والذي بناه الحفصيون قبل خمسمائة سنة من اجل مراقبة السفن الغازية والمهدد رغم أهميته الرمزية والسياحية بالانهيار وكذلك تكريم رجل اوامراة من الاحياء او الأموات ممن عرفو بعلاقتهم العميقة بالبحر مثل عبد الله بن ظافر المعروف بـ«العصفور» الحارس التاريخي لجزيرة زمبرة وإقامة ورشات يدوية للأطفال مثل التصوير مثلا يكون هدفها التعريف بالتنوع البيولوجي البحري المحلي مثل الأسماك وغيرها .
تنوي مثلا وكالة حماية وتهيئة الشريط الساحلي اعداد مشروع تصرف بحري مستدام يدمج سواحل الهوارية وجزيرة زمبرة لماذا لا يكون هذا موضوع محاضرة يقدمها احد المختصين في الوكالة في السنة القادمة .
لماذا لا يقع الاهتمام بالاخطار البيئية التي تهدد سواحل الهوارية من جراء القدوم المتزايد للسواح في فصل الصيف عبرتنظيم محاضرات او أنشطة رمزية مثل القيام بحملة جماعية لتنظيف جزء من الساحل …
مهرجان حكايات البحر يمكن له يستمر وان يعانق الابداع شريطة ان يكون منفتحا على الأفكار الجديدة ومحافظا على ثوابته وهي السينما والتنمية المستدامة …