مسرحية "قطيع" لحمادي المزّي في عرضها الأوّل : هل التجرؤ على حرية التفكير جريمة؟!

عن "قطيع" في المطلق بلا تعريف وبلا عنوان وبلا زمان، حدثنا المخرج حمادي المزّي في مسرحيته الجديدة

عن ملحمة الإنسان المعاصر في محاولة الخروج عن "دمغجة" القطيع. ما بين منطق العقل وجنون الخيال تبدو المسافة بين الواقع والحلم أبعد من المستحيل وأقرب إلى الممكن... لكن شرط التجرؤ على التحرر في التصرف وفي التفكير!

 

على امتداد حوالي ساعة من الزمن وفي تشويق لم يسقط في التمطيط والثرثرة،احتضنت قاعة الفن الرابع بالعاصمة مؤخرا، العرض الأوّل لـمسرحية "قطيع" نص وإخراج وسينوغرافيا حمادي المزّي.

 

مجانين حكماء وحمقى عقلاء
أربعة مرضى وممرضتان وطبيب داخل مشفى للأمراض العقلية، كانوا هم الأبطال في مسرحية "قطيع". بلا مكان معين وبلا زمان محدد، يمكن للمسرحية أن تبسط ردائها على الإنسان أينما كان وفي أي زمان. هي ببساطة حكايتنا نحن وهُم وكل واحد منّا في مواجهة الأزمات النفسية طيلة فصول العمر، وفي ملاحقة وهم السعادة بشتى السبل. في نهاية المطاف، تتراكم الأحزان وتزيد مطبات الحياة وتتضاعف العقد النفسية ليعج المجتمع بشخصيات هشة و أرواح معطوبة وأجساد مشلولة ...
اختار صاحب النص والمخرج حمادي المزي أن يحشر شخصياته داخل مصحة للأمراض العقلية حتى يحاصرها في خوفها وفي شكوكها وفي اضطرابها... من خلال حصص العلاج أو بالأحرى الاستنطاق التي يجريها طبيب المشفى مع المرضى تعرّي الشخصيات خباياها وأسرارها وتشرح أمراضها وعقدها لنكتشف أننا كلنا مرضى بشكل أو بآخر وأنّ أمراض العصر أصبحت نفسية بالأساس .
ما بين شخصية الباحث المبتكر والعالم المخترع وشخصية المعلم مربي الأجيال وشخصية الشاب المهزوم وشخصية الأبله، قدّم المرضى الأربعة نماذج مختلفة من المجتمع تتباعد في أفكارها وأحلامها وتلتقي عند حدود المعاناة وانسداد الآفاق.
فهل هؤلاء المرضى هم حقا مجانين ؟ أم هم أعقل من الموجودين في الخارج؟ هل كان وجودهم هناك ضرورة طبية أم عقوبة زجرية بعد أن ضاق عن استيعابهم السجن؟ هل أنّ من يملك الشجاعة على التفكير خارج إطار المجموعة / القطيع هو مذنب يستحق العقاب؟ وإن كانوا قد اتفقوا على الهروب فإلى أين، وكيف؟ وهل ينجحون؟

رسم وأدب وعلم نفس... وتجارب حياة
عن وجوه مربعة ومثلثة وعن جباه مسطحة وعن عيون جاحظة، حدّثنا أبطال "قطيع" في محاولة لوصف قبح الإنسان المعاصر كما صورته لوحات الرسام الإسباني "فرانثيسكو ڤويا" والفنان الهولندي "هيرونيموس بوش" والرسام الإسباني "بابلو بيكاسو"... هي لوحات تعكس حجم الخراب الذي حلّ بالإنسان بسبب الحروب والمجاعات وانتحار القيم الإنسانية في زمن الخواء الروحي والإفلاس الأخلاقي.
تبدو مسرحية "قطيع" وكأنها عصارة مرجعيات في الفكر وفي الحياة من خلال توظيف ذكي وطريف لمرجعيات متعددة في اختصاصات مختلفة على غرار المسرح والفن التشكيلي وعلم النفس وعلم الاجتماع... وهو ما يتجلى بشكل مباشر أو ضمني في مشاهد المسرحية.
ولعل من أكثر فصول المسرحية بلاغة ورسالة هو مشهد المقيمين في المشفى ساعة الغداء. حيث تتجلى بوضوح نظرية "بافلوف" وتجربته على الكلب لإثبات "الاستجابة الشرطية". ويمكن أن نستعير هذا التوظيف لتوصيف حالة الشعوب المنهزمة والخاضعة والمستسلمة لقدرها حتى استحالت إلى مجرد "قطيع".
في مشهد آخر من المسرحية يروي البطل / المريض على مسامع من حولة "طُرفة" وينفجر ضاحكا متسائلا: ماذا لو مات الإنسان من الضحك؟ يبدو المخرج حمادي المزي هنا وكأنه يذّكرنا بقصة الفيلسوف اليوناني "خريسيبوس" الذي مات من الضحك. وان كان الضحك وسيلة لإفراز هرمون السعادة "الإندورفين" ، فهل يمكن أن تكون أسباب السعادة أحد مسببات الموت؟
في الدقائق الأولى لمسرحية "قطيع" تتم الإشارة في شكل "فلاش" أو موجز إخباري إلى كتاب "إدارة التوحش" وبالعودة إلى عنوان العرض "قطيع" يمكن للجمهور أن يذهب إلى الأقاصي في التأويل والقياس والتفسير ...

 

رحلة "السندباد" إلى أقاصي المسرح
بعيدا عن الاقتباس من نصوص "شكسبير" و"بريشت" و"يونسكو" والمرجعيات العالمية للفن الرابع، حرص حمادي المزّي على تقديم نص مبتكر في مسرحيته الجديدة "قطيع". في هذا النص قد نقتفي أكثر من أثر وأكثر من فكر وأكثر من فلسفة في الفن والحياة. وهكذا يبدو نص "قطيع" وكأنّه شذرات من أفكار حمادي المزي وأفكاره ورؤاه ... والأكيد أنّ هذا المخرج والكاتب المسرحي و صاحب "دار السندباد للإنتاج والتوزيع الفني" لن يتخلى عن شغف الارتحال والسفر بين المسارح والأركاح ، ولن يمل من الطواف بين المشاهد والشخصيات والكلمات كما كان "السندباد" في حكايات "ألف ليلة وليلة" على موعد دائم مع الإبحار ولذة الاكتشاف.
جاءت سينوغرافيا عرض "قطيع" وفية لمقاصد القول وعلى كبير من البلاغة في إيصال الرسالة . في كثير من اللحظات يبدو الجرس المعلق في منتصف الركح وكأنه استفزاز من أجل الانتفاضة في وجه كل أشكال السيطرة والهيمنة والاستعباد... أمام قتامة المشاهد داخل مشفى الأمراض العقلية، كان للضحك مكان في مسرحية "قطيع" والذي يتجسد خاصة في شخصية المعلم التي أداها باقتدار الممثل يحي الفايدي . ودون استثناء لعب كل الأبطال (أصالة كواص وشيماء بلحاج ومروان الميساوي ومحمد كواص وعزالدين بشير وحسني العكرمي) أدوارهم بكثير من الإقناع والذي يعكس بدوره اقتناعهم بالشخصيات التي قدموها فوهبوها الكثير من روحهم وهواجسهم وأحلامهم ...
يترك حمادي المزي الأبواب مشرعة أمام الجميع لمشاهدة "قطيع" في مسرحية تستحق المشاهدة . ومن يدري لعلنا جميعا جزء من القطيع ونحتاج إلى من يقول الحقيقة بدلا عنا... ولو على لسان مجانين حكماء !

المشاركة في هذا المقال

Leave a comment

Make sure you enter the (*) required information where indicated. HTML code is not allowed.

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115