فيلم "نصف روح" لمروان الطرابلسي يمثل تونس في مهرجان بغداد السينمائي حين تقيّم الروح ماديا تنتهي الانسانية

اصبحت المادة هي المعيار الاساسي للحكم والتواصل،

مع التطور التكنولوجي ومقولة العالم اصبح قرية انتفت القيم الانسانية والمعايير الاخلاقية وباتت المادة وحدها الكفيلة بتحديد قيمة الناس وتسعير وجودهم من عدمه، فالانسانية باتت تعيش خطر الانقراض امام سطوة المال واصبحت قيم مثل الحب والامل والسلم والتحابب وغيرها من الكلمات الجميلة مجرد احرف ترتب في فوضى امام سطوة راس المال وتمرد اصابعه كما الاخطبوط يخنق كل ما حوله من جمال.

وبين صراع الانسان والمادة تكون رحلة فيلم "نصف روح" للمخرج مروان الطرابلسي الذي يمثل تونس في المسابقة الرسمية لمهرجان بغداد السينمائي والفيلم مدته ثلاث وعشرين دقيقة من تمثيل عبد القادر بن سعيد والطفلة امنة الحلفاوي وغناء مريم الرياض وموسيقى محمد البرصاوي ومونتاج مروان تازي وميكساج غازي نفاتي.

الكاميرا سلاح المخرج لنقد توحش المادة

اصبح الانسان مجرد ميكانيزم جسدي، اصبح الانسان مجموعة من الاعضاء تشتغل كما اي الة اخرى دون مشاعر او قيم، انتشرت فوضى المادة وسلطة اصحاب المال على قيمة القيم الانسانية وضرورتها هكذا يعالج مراون الطرابلسي العديد من القيم معالجة سينمائية وفلسفية، امام تحدي الانسانية يضع كاتب السيناريو شخصياته تحديدا شخصيته الرئيسية "ناجي" الذي يحال على التقاعد فيضطر الى القمامة ليحيا جسديا، ناجي ربما اخر البشر الذين يحترمون على "القيم" ويريد الحفاظ على حياة ابنته وتمرير قيم الحب والسلم اليها في مجموعات تفرقت روحيا.
يتشابه البشر والمكان، الرمادي المزعج تطلى به كل الجدران، القرميد متهالك من فوق وفي "دبو" مهمل ومنسي يعيش ناجي وابنته، بين المتناقضات تجمع كاميرا مروان الطرابلسي، فكلا الشخصيتين تعيشان في فقر مدقع لكنّ الابنة تلبس انظف الثياب ويسرح شعرها كما الاميرات، فوسط تلك العتمة والخرابة تزهر "امل" الابنة الصغيرة وكأننا بالمخرج يصرّ على بقايا الامل والحب رغم عتمة الواقع وعدمية الوجود اذ يؤكد المخرج ان العمل يسلط الضوء على قيمة البشر التي فقدت معناها واصبحت اليوم سلعة تباع وتشترى من خلال مشهد يجتمع فيه الناس كل يحمل بضاعة للبيع واحدهم عاري الجسد يحمل فقط ورقة بيضاء كتب عليها "لا شيء للبيع" اذ بقي فقط الروح او الجسد.
ينصت الطرابلسي في كتابة نصوصه لصوت القلب والحب، يحاول اثباتها رغم السوداوية المنتشرة في عالمنا اليوم، ناجي ليس الانموذج الافضل لكنه الاجمل في العمل لانه الانقى، تنتقل الشخصيات على دراجات هوائية في اشارة الى ثقل الواقع وبطئه تماما كحركات "البسكلات" بطيئة لا تستطيع مسايرة التقدم ولا سرعة العصر الراهن، من ىهذا البطئ يستلهم "ناجي" مشاعر الحب والخوف والرغبة في الحفاظ على زهرته الجميلة لتكون الاحداث ممتعة ومتسارعة عكس ايقاع الدراجات.

الى بقايا الانسانية حافظوا على انسانيتكم لانها كنزكم

الى المهمشين يهدى الطرابلسي فيلمه، الى من انهكتهم الاعمال اليدوية وكتبت السنين اثارها الموجعة على الجسد تهدى اغنية الفيلم، الى كل من انهكه الخوف حين البحث عن لقمة لسد الرمق ومواصلة الحياة تكون التحية، الى الحالمين المنهكين الذين دهستهم ماكينة التقدم والمادة وباتوا مجرد ارقام على سجلات الحياة اليهم جميعا كتب الطرابلسي فيلم "نصف روح" ومزج بين الفن والفلسفة، ليكون الفيلم بتلك الجمالية في الصورة وزايا التصوير وطريقة تقديم السيناريو واختيار الشخصيات ايضا "نحن نعيش في وقت لم يعد فيه البشر ذا قيمة نواصبح التهميش في المجتمع هو القاعدة واصبح المال هو الحاكم للعالم دون تردد" كما يقول المخرج عن فيلمه.
تميز القدير عبد القادر بن سعيد في شخصية "ناجي" وحمل وزر الشخصية ووجعها وأوصل للجمهور هشاشة انسان اليوم، بحركاته البطيئة وملامح وجهه المعبرة وقدرته على تضخيم الصوت ونقل المشاعر اوصل بن سعيد وجع الشخصية ومنها وجع المهمشين الى الجمهور، "ناجي" الحالم بمدينة عُملتها الاخوة وقانونها السلام واهلها يعيشون فيها بالحب والامل" يصدم بتعاسة الواقع ووحشية الاخر اذ جسدت سطوة المادة عبر ثلاثة يلبسون الاحمر لا يتكلمون فقط حين يعترضون طريق الانسان يسلبونه امواله بالقانون، هؤلاء هم رمز السلطة المتوحشة والمادة الاكثر توحشا.
"نصف روح" فيلم يسلط الضوء على الهامش وينصت لحكايا المهمشين، تراوح الكاميرا بين الامل والالم، في الفيلم الكثير من الميتافيزيقا فالبشرية تجاوزت مرحلة التبرع بالأعضاء الى التبرع بالارواح، وفي المصحة يكون الصف طويل ولكل متبرع اسبابه (سأتبرع بروحي ليستطيع ابني الزواج، ساتبرع بروحي ليكمل ابني دراسته، ساتبرع ليشتري ابني سيارته) .
"ناجي" يقرر التبرع بروحه لإصابة ابنته بورم في الدماغ وأمام كلفة العملية المرتفعة 15الف دينار يقرر التبرع بروحه (سعر الروح الف دينار في السنة وتقدم حسب عدد السنوات التي سيعيشها المتبرع)، لكنه سيفشل لان الالة تخبره ان بقي له 10اعوم و6اشهر فقط ليكون المبلغ 10الاف دينار لا تكفي لإجراء العملية، ثم تتطور المسالة والعلم ويكون الانسان قادرا على التبرع بنصف روحه لمن يحب ويمكنه الحياة بنصف فقط، ومن نصف روح ستزهر امل وتبتسم للحياة من جديد.
"نصف روح" فيلم انساني يلتقط قيم الجمال والأمل ويحاول الدفاع عنها امام تغوّل المادة ووحشية المال، في الفيلم رومنسية جميلة وانسيابية ممتعة للصور والمشاهد، يعرف المخرج كيف يختار زوايا التصوير لتكون بتلك المتعة البصرية وتنفذ مباشرة الى عقل المتفرج وتجبره على طرح السؤال: هل مازلت امارس انسانيتي؟ ام انني سقطت في هوّة اللامشاعر، اللا حب؟ واللا امل؟.

 

 

 

 

المشاركة في هذا المقال

Leave a comment

Make sure you enter the (*) required information where indicated. HTML code is not allowed.

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115