Print this page

اختتام أيام قرطاج السينمائية: جوائز بلا لجان...وتتويج بلا بريق !

في مساء هادئ الإيقاع وحفل بارد الأجواء

أُسدل ستار الاختتام على الدورة السادسة والثلاثين لأيام قرطاج السينمائية في مدينة الثقافة بتونس العاصمة. على المنصة، كانت الجوائز تُعلن تباعا والأسماء تُنادى والأفلام تُتوَّج... لكن يبدو أن لحظة الفوز فقدت معناها الاحتفالي والإنساني فلم تكن مشحونة بتشويقها المعهود وبحرارتها المعتادة . كان التصفيق المتقطع وغياب توهج التتويح أشبه بمشهد تمثيلي بارد في فيلم بائس !

قبل حوالي أسبوع، كان حفل افتتاح أيام قرطاج السينمائية فاترا وباهتا وكان من المأمول أن يأتي حفل الاختتام، مساء السبت 20 ديسمبر2025، في شكل مغاير باعتباره موعد الإعلان عن الجوائز وتتويج الفائزين... ولكنه جاء هادئا أكثر من اللزوم وأقل حرارة حتى من الأفلام التي احتضنتها شاشات أيام قرطاج السينمائية.
التانيت الذهبي للفيلم المصري "القصص"
ساد الهدوء المفرط حفل اختتام أيام قرطاج السينمائية مما جعل التصفيق محتشما، والكلمات قليلة، ولحظات التتويج أسرع مما ينبغي. كأنّ أعرق مهرجان سينمائي عربي وإفريقي وبعد أيام من الحيوية والنقاش والعروض، اختار أن ينسحب في صمت بدل أن يحتفل.
وقد تصدّر المشهد تتويج الفيلم المصري "القصص" للمخرج أبو بكر شوقي بالتانيت الذهبي، في فوز يعكس مجددا قدرة السينما العربية على النفاذ إلى الأسئلة الإنسانية الكبرى بلغة بسيطة وعميقة في آن. كما عكست بقية الجوائز، سواء في الروائي أو الوثائقي ، تنوّع التجارب العربية والإفريقية وحيويتها. لكن المفارقة أنّ هذا الثراء لم ينعكس على لحظة الإعلان عن الجوائز نفسها والتي جاءت مفرغة من انفعالات الفوز والفرح بمعانقة التانيت.
وقد ألقى غياب لجان التحكيم بظلاله على منصة الاختتام. وهذا الغياب لم يكن تفصيلا بروتوكوليا عابرا، بل مسّ جوهر العلاقة بين الفيلم الفائز و بين الاعتراف النقدي به. فالجائزة، في معناها الرمزي، ليست فقط تانيتا أو درعا أو مالا، بل لحظة لقاء بين صُنّاع العمل ومن قيّموا تجربتهم الفنية. وحين يُختزل هذا اللقاء في أسماء تُقرأ وظروف تُفتح، تفقد الجائزة جوهر روحها باعتبار أن تقرير لجان التحكيم هو الخصم والحكم في تبرير اختيارات أعضائها.
ومما زاد من حجم اللامبالاة التي تسئ لسمعة أيام قرطاج السينمائية وتاريخها، هو تسليم عدد من الجوائز بالنيابة أمام غياب عدد من الفائزين. وفي مشهد اتّسم بالسرعة والاقتضاب، وكأنّ التتويج تحوّل إلى إجراء إداري أكثر منه احتفالا سينمائيا عريقا. كما غابت الكلمات المرتجلة والمواقف الانفعالية لأغلب الفائزين ، وسابقا كانت خطابات المتوجين مهما كانت تلقائية أو قصيرة تصنع لحظات مكثفة للتعبير عن هموم السينما العربية والإفريقية وأسئلتها الكبرى.
وبرغم الحضور الرسمي المتمثل في وزيرة الشؤون الثقافية، فإنّ برودة الأجواء العامة داخل القاعة كانت لافتة، تصفيق محتشم وتفاعل محدود وإيقاع متسارع أنهى الحفل دون أن يترك أثرا يوازي تاريخ المهرجان أو مكانته. وهو ما يطرح تساؤلات حول إدارة لحظة الاختتام بوصفها ذروة رمزية للمهرجان، لا مجرد محطة ختامية، شكلية.
التانيت الشرفي للفيلم التونسي "صوت هند رجب"
في كلمته، شدّد مدير الدورة طارق بن شعبان على أنّ شاشة أيام قرطاج السينمائية عرضت أكثر من 200 فيلم من 44 بلدا مما شكّل فضاء لتبادل الأفكار وبناء الجسور بين التجارب. غير أنّ هذا النجاح التنظيمي والفني كان يحتاج إلى ترجمة احتفالية تليق بالمجهودات المبذولة وبانتظار السينمائيين والجمهور على حد سواء.
وتزداد أهمية هذا النقاش مع الإعلان عن أنّ الدورة المقبلة ستتزامن مع الذكرى الستين لتأسيس أيام قرطاج السينمائية، وهو موعد رمزي يفرض مراجعة دقيقة للتفاصيل، خاصة تلك التي تمسّ صورة المهرجان وذاكرته الجماعية. فالمهرجانات الكبرى لا تُقاس فقط بعدد الأفلام أو ثقل الأسماء المشاركة، بل أيضا بقدرتها على صناعة لحظات إنسانية دافئة تُخلّد في الذاكرة.
وقد حصدت السينما التونسية، اعترافا نقديا وجماهيريا مهما، من جوائز السيناريو إلى الأداء التمثيلي والتنويهات الخاصة، في تأكيد على حيوية المشهد السينمائي في بلادنا وقدرته على التجدد. وقد فاز فيلم "صوت هند رجب" للمخرجة كوثر بن هنية بجائزة لجنة التحكيم الشرفية. كما تُوّجت الممثلة سجا كيلاني بجائزة أفضل ممثلة عن دورها في الفيلم نفسه. وتحصل فيلم "وين ياخذنا الريح" للمخرجة آمال قلاتي على جائزة أفضل سيناريو إلى جانب جائزة الجمهور. وحاز فيلم "سماء بلا أرض" للمخرجة أريج السحيري على تنويه خاص للممثلة الإيفوارية "ديبورا لوب ناني".وفي مسابقة الأفلام الوثائقية الطويلة، تُوّج الفيلم التونسي "فوق التل" للمخرج بلحسن حندوس بالتانيت البرونزي، فيما نال فيلم "زريعتنا" للمخرج أنيس الأسود تنويها خاصا من لجنة التحكيم. أما في مسابقة الأفلام القصيرة، فقد حصد الفيلم التونسي "العصافير لا تهاجر" للمخرج رامي جربوعي تنويها خاصا. وعلى مستوى الجوائز الموازية، تُوّجت المخرجة شريفة بن عودة بجائزة أفضل فيلم للسينما الواعدة عن فيلمها "حجرة – مقص – ورقة".
هكذا، ودّعت الدورة السادسة والثلاثون لأيام قرطاج السينمائية جمهورها وضيوفها في اختتام ترك إحساسا بأنّ السينما كانت حاضرة بقوة على الشاشة، وغائبة نسبيا عن المنصة. والأفلام التي انتصرت في هذه الدورة ستواصل حياتها خارج القاعة، في ذاكرة المشاهدين وفي مسارات المخرجين وفي الأسئلة التي ستثيرها لاحقا.
ومع اقتراب احتفالية الستينية لتأسيس أيام قرطاج السينمائية، يبقى الرهان الحقيقي أن يستعيد المهرجان إلى جانب عمقه الفني ، حرارة لحظة الفوز نفسها حتى يظل التتويج احتفالا بالحلم وبالأمل.

المشاركة في هذا المقال