Print this page

المسيرة النسوية: تمرينٌ جديد على استعادة الفضاء العام

يبدو ان مسيرة السبت الفارط، لم تكن مجرد خروج

إلى الشارع تتقدم فيه النساء الصفوف ومن خلفهن رجال وشباب وجمعيات وأحزاب، بل هي إعلان يقدمه خليط غير متجانس لم يتفق يوما مفاده ان زمن الصمت قد انتهى وان جزء من المجتمع المدني متعدد المشارب والانتماءات قد نتفض ضد إطالته ومصادرة الفضاء العام .

انتفاضة شهدتها شوارع العاصمة يوم السبت الفارط، فعلى امتداد الطريق من نقطة التجمع والانطلاق وصولا إلى وزارة المرأة كان جليا من الشعارات التي رفعت ان الاحتجاج ليس ضد إدارة أو هيكل بيروقراطي بل في أمام الدولة/السلطة كمنظومة اتخذت قرارا بان المجتمع المدني يحتاج «إعادة ضبط» لاسيما الجمعيات غير المنسجمة مع خطابها التي باتت ترها عبء وجب تحييده.

مسار لم تكن جمعية النساء الديمقراطيات بمفردها من طالها أثره، ولكن الجمعية والنساء من خلفها اخترنا يوم السبت ان لا يكن الضحايا بل الشهادات على ما بات عليه وضع الحريات العامة والفردية في البلاد ، من منطلق ان من يضرب الحق في التنظيم لا يستهدف مؤسسة أو جمعية بعينها، بل يختبر قدرة التونسيين على الاحتمال وخاصة الفئات الأضعف، وان هذا الفعل لا يمكن مجابهته الا بتحويل الاحتجاج الى فعل سياسي يعيد تعريف الفضاء العام كفضاء مفتوح للمشاركة أمام كل التونسيين والتونسيات.

فضاء عام لكل التونسيات والتونسيين دون تمييز او استثناء هو ما جسدته مسيرة السبت الفارط التي بحثت عن تكرار تجربة سابقة لها، بان تجعل من الشارع فضاء يمكنه ان يجمع لكل الخصوم السياسيين على مطلب ومهمة مشتركة تعيد ترتيب الخصومات وتنظمها وفق أولويات المرحلة، التي لا تفترض تحالفا ولا تجاوز الخلاف بل تقاسم الفضاء العام دون مشاحنة وصراع لرفع شعار موحد، وهذا ما يشرح كيف ان المسيرة جمعت بين يساريين ودستوريين وما يمتد بينهما من عائلات سياسية وفكرية في البلاد.

وما قدمته المسيرة بمشاركة كل هؤلاء ليس مشهد يعبر عن الانسجام الفكري، بل عن إدراك جماعي بأن الصراع لم تعد اولوياته البرامج أو المواقع، بل حماية ما تبقى من فضاء يسمح بالتعبير والانتماء. وهو ما يبدو ان المشاركين مدركين له ومدركين لاهمية ان تتراكم الخطوات من اجل الوصول الى الحد الادنى من لمشترك الذي لا يلغى الخلافات الإيديولوجية بل يؤجلها، من اجل الصمود أمام ضغط المؤسسات على المجتمع ومحاولتها الهيمنة عليه وعلى الفضاء العام برمته الذي لا يقبل التأجيل.

محاولة جديدة لترسيخ هذا التوده يبدو ان من يقودها اليوم هن النساء اللتي اخترن يوم السبت الفارط ان يكنّ خصما للسلطة فاعلات يدافعن عن حقهن في التنظم والتظاهر وحريتهن ومن خلفهن حق كل التونسيين في الوجود وصناعة القرار والاعتراض، في سياق تصور اشمل يتجاوز الظرفي أو المطلب الفئوي، سياق يدافع اليوم عن كرامة الجميع وحريته.

وهذا ما تركته المسيرة في نفوس المشاركين ومن تابعوها، ممن ادركوا ان المشهد اليوم في تونس لن يعود كما كان، فما اعلنه المحتجون بضوح هو رفضهم ان تكون الدولة وصيًا على المجتمع المدني، او ان تجعل من الفضاء العام مرفقا إداريا. ولكن الأهم هو الخطاب الجديد الذي بات يحدد ازمة البلاد بوضوح في انها محاولة السلطة غلق المجال العام.

وبهذا المعنى تتجاوز المسيرة النسوية كونها حدث عادي لتكون تمرينا جديدا لمعارضي السلطة ورافضي نهجها الراهن بشأن قدرتهم على ان يراكموا الخطوات نحو مشترك يمكنه ان يقدم سرد سياسي جديد

المشاركة في هذا المقال