ووسيلة للتحرّر من كلّ أشكال القهر، وشاشة لقول ما تعجز الأفواه عن قوله. ولأنّ الفن السابع مجال رحب للتفكير في معنى الحرية والكرامة الإنسانية، يراهن المهرجان الدولي لأفلام حقوق الإنسان على السينما كأداة للتغيير، وكمنبر للحوار بين الثقافات والشعوب حول قضايا الإنسان...
يوقد المهرجان الدولي لأفلام حقوق الإنسان بتونس شمعته العاشرة، من 11 إلى 15 نوفمبر الجاري بمدينة الثقافة الشاذلي القليبي، مواصلا رسالته التي اختارها منذ انطلاقه في أن تكون السينما مرآة للحق، ومنبرا للحريات، وجسرا نحو الكرامة.
عشر سنوات من الالتزام بحقوق الإنسان
عندما أطلقت الجمعية الثقافية التونسية للإدماج والتكوين أول دورة من المهرجان بإدارة السينمائي إلياس بكّار، لم يكن الهدف مجرّد عرض أفلام تتناول قضايا إنسانية، بل كان السعي إلى تأسيس وعي بصري نقدي يجعل من الصورة أداة لتغيير الواقع.
واليوم، بعد عقد من الزمن، رسّخ المهرجان مكانته كأحد أبرز التظاهرات السينمائية التي تمنح للعدسة روحا نضالية، وتفتح النقاش حول الإنسان في كل مكان، بعيدا عن الحدود والانتماءات الضيّقة. وفي تقديمها للدورة العاشرة تقول مديرة المهرجان ريم بن منصور: "نحن نؤمن أن الصورة قادرة على إيقاظ الوعي وإلهام التغيير، لذا سعينا أن نجعل من الفن السابع أداة للتفكير والتوعية والأمل.في هذه الدورة العاشرة نحتفي بمبدأ عدم قابلية الحقوق للتفريع، لأن الحريّة لا تكتمل دون مساواة وحقوق المرأة لا تنفصل عن الحقوق المدنية، وحقوق الطفل لا تزدهر في عالم يسوده العنف والحرب." هي عشر دورات من السينما من أجل حقوق غير قابلة للتجزئة" ليس شعارا فحسب، بل هو خلاصة تجربة وإنسانية وموقف أخلاقي تَكوَّن عبر سنوات من العمل والمقاومة.في هذا الدورة، تمثّل غزّة بوصلة ضميرنا. أمام المأساة التي يشهدها العالم، اخترنا ألا نصمت وألا نحتفل دون أن نُسمي الألم باسمه."
"ضع روحك على يدك وامشِ"...شهادة من غزة إلى العالم
بفيلم نابع من قلب غزة ومولود من رحم المقاومة، وثّقته الصحفية والمصوّرة الفلسطينية فاطمة حسونة بعدسة هاتفها، قبل أن تُستشهد في قصف إسرائيلي في أفريل 2025 ، يفتتح مساء اليوم بمدينة الثقافة المهرجان الدولي لأفلام حقوق الإنسان دورته العاشرة بفيلم شديد التأثير للمخرجة الإيرانية "سبيده فارسي" بعنوان "ضع روحك على يدك وامشِ". هذا الفيلم
تحوّل إلى وثيقة إنسانية تخلّد نضال النساء الفلسطينيات، وتكشف قدرة الصورة على تحدّي الرصاص، ومواجهة آلة الحرب. تقول مخرجة الفيلم: "ضع روحك على يدك وامشِ"، هذه هي إجابتي كمخرجة على المجازر الجارية ضد الفلسطينيين. حدثت معجزة عندما التقيت فاطمة حسونة. أَعارتني عيونها لأرى غزة حيث كانت تقاوم بتوثيق الحرب. أصبحت حلقة وصل بينها وبين بقية العالم، من «سجن غزة» كما كانت تسمّيه. حافظنا على هذه العلاقة أكثر من 200 يوم. أجزاء البكسل والأصوات التي تبادلناها أصبحت الفيلم الذي ترونه. اغتيال فاطمة في 16 أفريل 2025 إثر هجوم إسرائيلي على منزلها يغيّر المعنى إلى الأبد".
تذكرة إلى السينما الإسبانية
"كيف لا نكرّم إسبانيا في مهرجان مخصّص لأفلام حقوق الإنسان! " تتساءل هيئة المهرجان وكأنّ الإجابة معروفة ولا تحتمل التأويل، قبل أن تبرر هذا الاختيار فتقول : " أصبحت السينما الإسبانية واحدة من أكثر السينمات تميّزا على المستوى الدولي،فلا داعي لتقديم لويس بونويلوبيدروألمودوفار وكارلوس ساورا ومرسيدس ألفاريز وأليخاندرو أمينابار، وخوسيه لويس غيرين ولويس غارسيا بيرلانغا وغيرهم ممن ساهموا في تشكيل السينما العالمية عبر الأزمنة، سواء من خلال التيمات التي تناولوها أو من خلال مقارباتهم السينمائية. علاوة على ذلك، ومن خلال الدورات المختلفة للمهرجان، كانت السينما الإسبانية الأكثر بروزا، إلى جانب السينما اللبنانية والإيرانية والفلسطينية والتركية.ثانيا، إن اهتمام السينما الإسبانية بذاكرتها الجماعيّة وتاريخ البلاد يستحقّ التثمين. تساءلت الأفلام الوثائقية والخيالية الإسبانية عن الحرب الأهلية عام 1936 وفترة حكم فرانكو والتحوّل الديمقراطي وهجرة الستينيات من اسبانيا والهجرة المعاصرة إليها وإلى أوروبا؛ ولكن أيضا، التساؤل التحليلي والنقدي حول الاستعمار، سواء كان من صنع إسبانيا أو الذي عانت منه.وأخيرا، موقف إسبانيا، شعبا وحكومة، تجاه الاستعمار الصهيوني لفلسطين والإبادة الجماعيّة المرتكبة في غزّة. موقف يلتزم بقيّم حقوق الإنسان وشموليتها وتطبيقها دون تراتبيّة أو فرز أو استبعاد أو حصانة".
السينما للجميع... حتى خلف القضبان
تجمع الدورة العاشرة مشاركات من 31 دولة، وتقدّم 55 فيلما من الأصناف الروائية والوثائقية والقصيرة والرسوم المتحركة.لكنّ المهرجان لا يكتفي بالعروض، بل يقترح فضاءات للتعلّم والنقاش، منها ورشة في الكتابة النقدية تمتدّ على ثلاثة أيام، وندوة فكرية دولية حول موضوع "مضمون حقوق الإنسان في الواقع الحالي".
فالمهرجان لا يرى السينما متعة بصرية فحسب، بل فعل تفكير جماعي يربط الصورة بالفكرة، والفن بالفعل الاجتماعي.من أبرز ملامح فلسفة المهرجان انفتاحه على الفئات الهشّة والمهمّشة، إذ كان من أوائل المبادرات التي أدخلت السينما إلى المؤسسات السجنية ومراكز التأهيل، دفاعا عن الحقّ في الثقافة للجميع.
وقد اختارت هذه الدورة ألا تُركّز على "حقّ"بعينه كما في السنوات السابقة، بل أن تطرح سؤالا وجوديا حول فلسفة نظام حقوق الإنسان نفسه في زمن الحروب والمجازر والتواطؤ السياسي.
بعد عشر سنوات من الحلم والجهد، يثبت المهرجان الدولي لأفلام حقوق الإنسان بتونس أنّ السينما وثيقة حياة وأداة مقاومة وذاكرة تحفظ ما يحاول العالم نسيانه أو طمسه أو محوه....هو مهرجان يراهن على بقاء الكاميرا مرفوعة والعدسة مفتوحة والعين يقِظة.