Print this page

نتائج الدورة الرئيسية للبكالوريا: كي لا يخفي التمييز أزمة التعليم

تحضى نتائج امتحان البكالوريا في تونس كل سنة بالكثير من الاحتفاء

والتناول الاعلامي الذي يتغنى بالمتفوقين وقصصهم التي تروى كأمثلة على النجاح والكفاءة والاجتهاد. لكن هذه المشهدية الاحتفالية الموسمية تخفي صورة قاتمة وهي الازمة البنيوية التي طالت التعليم في البلاد، وتكشفها الأرقام التي تسلط الضوء على هشاشة المنظومة التربوية واختلال العدالة التعليمية، خاصة ان تعلق الامر بالفوارق الجهوية والمجالية.

اذ تكشف نتائج الدورة الرئيسية لبكالوريا 2025 عن استمرار المفارقة الصارخة، التي باتت تختزل انقسام البلاد إلى اثنين: الأول يجمع بين الامتداد المجالي على الشريط الساحلي (باستثناء باجة وجندوبة) وتسجيل نسبة نجاح تتجاوز المعدل الوطني، أي أن نسبة النجاح المسجلة تجاوزت 41 بالمئة في مختلف هذه الولايات، مقابل مشهد مغاير يمتاز بأنه أيضًا امتداد مجالي للولايات الداخلية التي سجلت نسبة نجاح أدنى من المعدل العام في الدورة الرئيسية جوان 2025.

انقسام مجالي قد تكون كل من ولاية صفاقس وولاية القصرين نموذجًا صارخًا يكشف عن تمييز هيكلي قائم صلب النظام التربوي، حيث تتحوّل الجغرافيا إلى قدر تعليمي، والموقع الاجتماعي إلى أداة لقياس الحظوظ في النجاح. إذ تحتل صفاقس بمندوبيتيها المرتبة الأولى والثانية، بنسبة نجاح هي على التوالي 55,75 بالمئة و54,89 بالمئة، في حين تسجل ولاية القصرين أدنى نسبة نجاح وهي 24,53 بالمئة.

هذه النتائج هي التجسيد لما حملته تقارير مجموعة البنك الدولي «العدالة في التعليم في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا» الصادر في 2023، من تحذير بأن تونس تواجه تداعيات التفاوت الشديد في جودة التعلّم بين المناطق الريفية والحضرية، والذي وقع تجزئته وتفصيله في التقرير بأن المتمدرسين في الجهات الداخلية لا يتلقون نفس القدر من التعليم الفعلي مقارنة بنظرائهم في المدن الكبرى، وأنه غالبًا ما يعاني التلاميذ في الجهات الداخلية من نقص الإطار التربوي وضعف تأهيله، إضافة إلى نقائص وهشاشة البنية التحتية.

معطيات نُشرت وأُعيد نشرها خلال السنوات العشر الفارطة، تكشف عن الأزمة الهيكلية التي أصابت منظومة التربية والتعليم والتي تُعد نتائج البكالوريا أكثر لحظة تجلي لها، فهي تكشف عن جودة التحصيل العلمي والمعرفي للتلميذ التونسي وتبيّن البون الشاسع بين ما يحصله تلميذ في إحدى المدن الكبرى ونظيره في المدن الداخلية أو أرياف تونس، وتبيّن أن المنظومة التربوية باتت عنصر تمييز وتعزيز للفروقات والتفاوت الجهوي والاجتماعي بين التونسيين.

مسؤولية تتحملها المجموعة الوطنية والدولة، التي يبدو أن الاختلال المسجل اليوم هو نتاج لسياسات عمومية لم تأخذ بعين الاعتبار ما سُجّل من اختلال خلال السنوات الفارطة ولم تعمل على معالجته لضمان المساواة وتوفير ذات الفرص لكل تونسي وتونسية، للقطع مع المشهد الذي بات يتكرر كل سنة، والمتمثل في أن قائمة الناجحين بأعلى معدل وطني وفق الشعب، تضم على الأقل ناجحين من الولايات متذيلة الترتيب على المستوى الوطني. ومثال ذلك هذه السنة أن الناجح بأعلى معدل وطني في شعبة التقنية من ولاية القصرين التي احتلت المرتبة الأخيرة في نسبة النجاح.

هذا التفاوت والمفارقة تُظهر أن التميز الدراسي في بعض الجهات الداخلية، الذي يُنظر إليه كحدث استثنائي، وإنجاز فردي خارق للظروف، يُعري المنظومة التربوية التي تآكلت، وبات تميز الأفراد في هذه المؤسسات التربوية بالولايات والمدن الداخلية ناتجًا عن قوة الإرادة الفردية أو تضحية العائلة. وهي مفارقة تُعيد طرح سؤال: كيف يصبح النظام التربوي التونسي أداة لإعادة إنتاج التفاوت بدل أن يكون مدخلًا للحد منه؟

هنا قد يكون مصطلح الرأسمال الرمزي الذي صاغه بورديو كلمة مفتاحية في تفكيك المشهد التربوي في تونس، الذي سعى في بدايته إلى تجسيد مقولة أن النجاح الأكاديمي هو نتيجة طبيعية للكفاءة والاستحقاق، ولكنه اليوم بات نتيجة لتراكمات غير مرئية من الامتيازات الثقافية والاجتماعية والمكانية. فالتلميذ الذي يدرس في معهد نموذجي بأريانة أو المنزه الثامن لا يمتلك فقط كفاءة معرفية، بل يستفيد من جودة الإطار التربوي، ووفرة الموارد، والدعم الأسري، والتوقعات الاجتماعية العالية. بينما يواجه التلميذ في تالة أو السبيخة بيئة مدرسية هشة، ونقصًا في التكوين، وأفقًا محدودًا للمستقبل.

والخلل هنا مزدوج، فالنظام التربوي لا يكتفي بتعميق الفروقات بين تلميذين تونسيين، بل يقدّم نتائج كل منهما على قدم المساواة، ويمنح كليهما نفس الشهادة، وهو ما يحتفي به الخطاب الرسمي الذي يروّج لفكرة تكافؤ الفرص والمساواة بين الممتحنين، ويتغافل عن أن النجاح في المناطق الداخلية بات نتاجًا لجهد فردي يُحقّق رغم المدرسة، لا بفضلها.

وهنا مفارقة أخرى، فالمنظومة التربوية في المناطق الداخلية باتت خلال السنوات الفارطة تنتج قلة من المتفوقين، ممن قد تكون لهم خلفيات سمحت لهم بتعزيز حظوظهم ووفّرت لهم بيئة سليمة سمحت لهم بالتميز، في حين تُركت الأغلبية عرضة للإخفاق والتهميش الناجم عن بيئتهم التي تعيق النجاح. وهنا يمكننا أن نبصر مشهدًا لإنتاج اللامساواة بطريقة أكثر نعومة وأكثر شرعية، عبر المدرسة.

وهذا لا يعني أنه لا يجب الاحتفاء بالمتفوقين، بل العكس، ففي ظل هذه السياقات يصبح التميز الفردي لا فقط نجاحًا تربويًا تعليميًا وإنما أيقونيًا، خاصة وأن المنظومة التربوية غابت عنها العدالة، فبات التفوق استثناءً.

استثناء يفرض، مع كل إعلان عن نتائج الدورة الرئيسية لامتحان البكالوريا، أن نطرح أسئلة جوهرية وعلى رأسها: لماذا هذا التباين بين الجهات؟ ولماذا تتميز بعضها وتخفق أخرى؟ وكيف نسترجع دور المدرسة كأداة للإنصاف؟ وليس أخيرًا، أي معنى للامتحانات الوطنية إن كانت محكومة مسبقًا بسقف الجغرافيا وتثقلها معايير الانتماء الاجتماعي؟

أسئلة يجب أن تُطرح إن أردنا أن نسلك مسار إعادة الاعتبار للمدرسة العمومية والتعليم، الذي يتيح لكل طفل، في كل ولاية، أن يحلم بفرصة عادلة للنجاح

المشاركة في هذا المقال