Print this page

«بس الجوع كافر»

ليس جديدا السعي للحصول على مساعدة الدول الصديقة أو من الدول «شبه شبه» في حالات استثنائية، ففي بداية الاستقلال لم

تخجل القيادة الوطنية من اللجوء إلى طلب المساعدات الأمريكية لتوفير الحاجيات الغذائية الدنيا للشعب لتجنب المجاعة، ولولا تهاطل المساعدات على تونس من مختلف أصقاع العالم لما استطاعت هذه الأخيرة مواجهة الآثار الكارثية التي خلفتها فيضانات 1968 و 1988 على الوضع المعيشي والبنية التحتية، إذن فقبول الحكومة اليوم لشحنة القمح المرسلة من أمريكا يعدّ أمرا عاديا بعد أن بات الأمن الغذائي للبلاد مهددا بصفة جدية، فلا معنى للعنتريات والشعارات والمزايدات مع الجوع، فلا كرامة لجائع وكما تقول الدكتورة ألفة يوسف «الذي يجوع يأكل من ثدييه وردفيه وإليتيه إن لزم» بعد أن اعتبرت مقولة «تجوع الحرة ولا تأكل من ثدييها» مجرّد تنظير تافه.

لكن الشيء غير العادي في هذا الاتجاه، ظهور السفير الأمريكي في فيديو يبشر فيه الشعب التونسي بعد تهنئته بالعيد بوصول شحنة 25 ألف طن من القمح الصلب لصنع « خبز الطابونة « والمقرونة والكسكسي ، وهذه أوّل مرّة يتوجه فيها ديبلوماسي أجنبي مباشرة للشعب عبر شريط مصور وبلغة عربية فصحى ليوضح بتفصيل مدقق الغاية من العملية التي قامت بها بلاده، ودون الدخول في نوايا السفير وما اذا كانت طيبة أم سيئة، فالمغزى من رسالته واضح حيث لا توجد تلقائية في تصريحات دبلوماسيي الولايات المتحدة الامريكية، فكلّ المواقف والتصريحات محسوبة وبدقّة وتندرج ضمن استراتيجيات السياسة الخارجية لبلادهم، وفي هذه الحالة كأنّ السفير أراد ان يقول: «روسيا هي المتسببة في ما أنتم فيه من حاجة ونحن من ننجدكم»، ومهما كان الهدف وراء تلك الرسالة المصوّرة فإنّ ما أتاه السفير الأمريكي فيه الكثير من التعالي والمكابرة إزاء تونس بتقديم المسألة في إطار «الشفقة»، لذلك أثار كلامه استياء شديدا لدى الكثير من التونسيين الذين شعروا بأنّه يجرحهم في كبريائهم وهم يعتقدون بأنّ تونس تستحق أكثر احتراما من العالم حتى ولو جعلتها الأزمة تحتاج إلى المساعدة .

لكن المفارقة الغريبة هي الترحاب الذي لاقاه وصول باخرة القمح من طرف وزارة الخارجية التونسية، وقد أصدرت بيانا في الغرض تشكر فيه السلطات الأمريكية وتثمّن فيه التضامن والتنسيق المثمرين بين تونس وأمريكا، ومردّ هذا الاستغراب أنّ وزارة الخارجية عوّدتنا من مدّة بالرّدّ بقوة وبعبارات قاسية على أي ديبلوماسي أو مسؤول من الخارج ينبس ببنت شفة حول ما يحدث بتونس، وذلك في الوقت الذي يبلغ فيه الخطاب الرسمي أوج التصعيد إزاء المواقف الخارجية، من الإيقافات التي تحصل في صفوف المعارضة، والاعلان عن خوض معركة «تحرير وطني» جديدة من أجل استرجاع «السيادة» الوطنية ويذهب الرئيس إلى حدّ التلويح بالاستغناء عن صندوق النقد الدولي وعدم الإذعان لشروطه للاعتماد على الذات كلّيا.

قد يعكس ظاهر هذا الخطاب رغبة تتقاسمها الأغلبية الساحقة من التونسيين المنزعجين من سياسة الإرتهان إلى الخارج ومن حجم التداين الذي بات يكبّل البلاد، لكن السياسات المتبعة على أرض الواقع لم تخرج عن منطق التداين والحصول على المساعدات، فمنذ 25 جويلية حصلت الدولة على العديد من الهبات والقروض مثل هبة 600 مليون دولار التي تمّ الإعلان عنها عن طريق بيان من السفارة الأمريكية وأسندت لتونس عن طريق «UNICEF» لفائدة أبناء العائلات الفقيرة، كما تحصلت على تمويلات من جهات مختلفة، 400 مليون دولار من البنك الدولي و 480 مليون دينار من الاتحاد الأوربي وعدد من القروض من البنك الإفريقي بقيمة 700 مليون دولار في العام الماضي و80 مليون دولار خلال هذه السنة، كذلك قرض فرنسي بقيمة 200 مليون يورو، هذا إلى جانب النشاط «الخيري» المباشر لجمعيات أجنبيه مثل الحضور القوي لـ«قطر الخيرية» التي تنشط في دعم الأسر المعوزة في ست مناطق في البلاد.

والخوف كلّ الخوف من تفاقم الأزمة الغذائية في البلاد حسب مؤشرات صابة القمح لهذه السنة والتي ستنزل إلى أدنى المستويات، لذلك تحتاج المسألة إلى الإسراع في إيجاد الحلول والبدائل لمجابهة الصعوبات، ولا يمكن أن تكون هذه الحلول إلا سياسية بالمعنى البراغماتي، وبما أنّها «فنّ الممكن» كما عرّفه «مكيافييل» لا يخضع للأهواء والرغبات، اذ بقدر ما تكون واضحا مع نفسك ستفرض على الآخرين أن يكونوا واضحين معك، فلا يمكن أن «تطلق سهامك بيد وتتقبل الهدايا بيد أخرى»، كما يقول مثل صيني، لأنه لا يمكن فصل التدخل الغذائي عن التدخل في المجالات الأخرى، فقد يصبح «الغذاء» أقوى سلاح في السياسة في ظل هذه التغيرات المناخية واستمرار الحرب الروسية الأكرانية زيادة عن الجفاف الحاد الذي يجتاح البلاد.

 

المشاركة في هذا المقال