Print this page

لا لدفن الأفريقانية Le panafricanisme

لست بصحفي ولا بمحلل سياسي لكن بصفتي مؤرخا ابحث عما يمكن استخلاصه من دروس من التاريخ المعاصر والحديث،

وفي هذا المقال سأتناول موضوعا حارقا محل جدل - اليوم - في كل من الفضاء السياسي والإعلامي المحلي والدولي وهو مسالة الحركة "الافريقانية"

في علاقتها بتونس.
ظهرت الحركة الافريقانية في نهاية القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين بهدف تحرير إفريقيا من كل مظاهر الاستعمار بما في ذلك الاستعمار الفكري الذي أسس للعبودية والعنصرية والاكزنوفوبيا.
وقد تبنى المؤتمر الأول للأفريقانية الذي نظم بباريس من 19 الى 22 فيفري 1919 والذي أسس لهذه الحركة مبادئ حقوق الانسان خاصة من خلال حث الافارقة السود في المهجر للدفاع عن حقوقهم الاقتصادية والاجتماعية والسياسية في إطار ما يسمى بالتجمع الافرو-امريكي، ونشير في هذا الاطار الى ان كل وثائق هذا المؤتمر و المؤتمرات التي تليه تعتبر قضية حقوق الانسان قضية جوهرية وقد ساهمت هذه الحركة بقسط كبير في ادراج منظومة حقوق الانسان ضمن مبادئ الأمم المتحدة وانتشار الوعي بخطورة التمييز العنصري بكافة المجتمعات باعتباره مظهر من مظاهر الفاشية.
كما حثت كل مؤتمرات الافريقانية كل الافارقة في القارة وفي والمهجر على ضرورة الاتحاد والتضامن من اجل مقاومة كل اشكال الاستعمار دون التنصيص على اللون او الأصل ودون تمييز على أساس العرق والانتماء الديني و الجغرافي (شمال افريقيا وافريقيا جنوب الصحراء) وحتى على أساس اللغة.
وتجدر الاشارة ان نخبة شمال افريقيا ساهمت في دعم الحركة الافريقانية بداية من تأسيس جمعية "نجمة شمال افريقيا" بباريس سنة 1926 لتصبح الافريقانية احدى الركائز الفكرية للحركات الاستقلالية في كل انحاء القارة الافريقية وقد اخذت نسقا متميزا في تونس بداية من سنة 1947 سواء كان ذلك على المستوى الحزبي او النقابي.
وبعد الاستقلال تحولت كل من أكرا (غانا) وتونس الى اهم العواصم التي تتبنى الفكر الافريقاني. ونظمت بالعاصمتين اهم التظاهرات ومؤتمرات تحرير شعوب افريقيا... كما نظمت مسيرات بشارع الحبيب بورقيبة سنة 1958 و1959 و1960 بشعار "إفريقيا للافارقة" وتأسست بتونس سنة 1960 الكونفدرالية النقابية الافريقية التي جمعت آنذاك اكثر من مليوني منخرط.

والمعلوم أيضا ان الميثاق التأسيسي لمنظمة الوحدة الافريقية التي تأسست في 25 ماي 1963 باديس ابابا (اثيوبيا) والتي أصبحت فيما بعد الاتحاد الإفريقي والتي كانت تونس من الدول المؤسسة لها ينص على ضرورة حماية حقوق الانسان وحقوق الشعوب والتحلي بالثقافة الديمقراطية والتمسك بركائز دولة القانون.ولكن تقلص تدريجيا هذا الحس الأفريقاني بداية من السبعينيات بتأثير نظرية اتى بها محمد المصمودي (وزير خارجية سابق) والتي تؤكد على ان مستقبل تونس وتنميتها مرتبط أساسا بدول الخليج العربي وان الافريقانية لا افق لها من الناحية الاقتصادية والسياسية.

وتبنى محمد المزالي هذا التوجه مع اضافة مفهوم الاصالة والتفتح، واختلط الامر بين الاقتصاد والعروبة والتعريب والإسلام بما في ذلك الإسلام السياسي وأصبح التقارب مع بلدان الخليج أولوية الأولويات (كان آنذاك راشد الغنوشي مستشار فعلي لرئيس الحكومة) وفي المقابل أصبحت الدبلوماسية التونسية الافريقية شكلية دون بعد استراتيجي.
إضافة الى ذلك يمكن تفسير البعد عن أفريقيا من خلال اختلاف الرؤى بين بورقيبة و ليبيود سنغور(رئيس السنغال) حول ضرورة إرساء أنظمة ديمقراطية بإفريقيا اذ نصح هذا الأخير بورقيبة بالتخلي عن السلطة وهو ما لم يستحسنه بورقيبة الذي وارب باب العلاقات مع السنغال وغض الطرف عن أولويات العلاقات مع الدول الافريقية.
وخلال فترة حكم بن علي لم تغير تونس استراتيجياتها نحو افريقيا ولم تكن الافريقانية من أولويات الدبلوماسية التونسية حيث بقيت تتأرجح بين بلدان الخليج والاتحاد الأوروبي وتركيا الى يومنا هذا رغم اعتراف كل الخبراء الاقتصاديين والسياسيين بان "افريقيا هي المستقبل" وقد بادرت عدة دول بالسير بسياساتها في هذا الاتجاه.
وفي النهاية نؤكد انه لا توجد اطلاقا أية وثائق او مراجع مكتوبة تنص على وجود حركة فكرية سياسية او خطة مدروسة او أيديولوجيا جماعية افريقية تستهدف تغيير الخصوصيات الديمغرافية و الثقافية للشعب التونسي وان وجدت فهي مواقف فردية مخالفة لمبادئ الاتحاد الافريقي وما ينص عليه الميثاق الأفريقي لحقوق الإنسان والشعوب.
و هذا الخطاب الذي يدعي بان الخطر آت من الجنوب وخاصة من هجرة الافارقة نحو أوروبا لطمس الهوية الأوروبية المسيحية تبنته تدريجيا عديد الدول لأسباب عديدة محلية ودولية. وفي علاقة هذا الموضوع بتونس كان من الأفضل التخلي على المرجعيات الدينية والعرقية وتناول قضية الهجرة غير النظامية من الناحية القانونية وفي إطار مفهوم ومحتوى الافريقانية الذي لا يميز بين الشعوب الإفريقية و الذي يطالب بحل الازمات و الاختلافات بالحوار في اطار المنطقة المعنية او في اطار هياكل و مؤسسات الاتحاد الإفريقي
وذلك أولا بدعوة السلطات التونسية لسفراء الدول المعنية للتفاوض وإيجاد حلول واليات مشتركة لمعالجة هذه الظاهرة
ثانيا بتنظيم ندوة افريقية جهوية تجمع الدول المعنية (دول شمال إفريقيا ودول افريقيا جنوب الصحراء) لبلورة نظرة مستقبلية وخطة عمل مشتركة وبذلك تكون الدبلوماسية التونسية لعبت دورا استشرافيا نموذجيا في تكريس مبادئ الافريقانية
ثالثا نداء عاجل الى المؤسسات الحكومية والمجتمع المدني ووسائل الاعلام لتجنب خطاب الكراهية والانفعالية والعنصرية وفي المقابل نشر ثقافة التسامح والتضامن وإمكانية وجود الظروف الملائمة للعيش المشترك.
-والدرس الذي نستنتجه هو تفادي كل ما يفرق بين الشعوب الافريقية تحت تأثير الثقافة الاستعمارية التي تسببت ولا تزال تتسبب في اندلاع صراعات ومجازر عرقية وحروب أهلية في القارة الافريقية.
- والدرس الثاني انه لا يمكن لأي دولة كانت ان تقاوم العجرة غير النظامية بمفردها مهما كانت امكانياتها العسكرية والمخابراتية وقوة حركاتها اليمينية المتطرفة والعنصرية.
-ان العمل المشترك والتضامن الفعلي بين دول شمال افريقيا ودول افريقيا جنوب الصحراء من خلال تحالف فعلي من شانه ان يضغط على أوروبا لمراجعة سياستها للهجرة النظامية وغير النظامية.
وأخيرا ان الخطاب التمييزي والعنصري يؤدي الى تفكيك المجتمع والتشجيع على الحركات الفاشية.

المشاركة في هذا المقال