Print this page

منبـــــر: «وأما بنعمة ربك فحدث»

إنه لمن الكفر بالمعنى الأخلاقي للكلمة أن لا نقر كما ينبغي بنعمة الديمقراطية. نحن تحصلنا عما تجري وراءه الشعوب الإسلامية والعربية منذ القرن التاسع عشر، قبل حتى استعمارها من طرف الدول الأوروبية. حيث لا ننسى أن مسألة طبيعة الحكم سابقة لقضية الاستقلال

و هو ما أبقاها مطروحة بكاملها حتى بعد التحرر من الاستعمار. ومنها فإن الإنعتاق من الاحتلال الأجنبي ومن الحكم التسلطي بقيا دائما شرطي استكمال التحرر وسيادة الشعب بمعناه الكامل.
وإذا كانت شوارعنا لا تزال ملوثة بالفضلات وأسعار الطماطم غير مناسبة وكثير من شبابنا من أصحاب الشهائد العليا غير مشغل وميزانيتنا غير متوازنة والديوانة وحدودنا الاقتصادية والتجارية غير مراقبة كما ينبغي والبعض من أحزابنا تشلها الاختلافات وإعلامنا يبحث له عن التوازن الملائم وقضاؤنا يشكو من بعض الهنات والاستثمار ضعيف والسياحة في أزمة والفسفاط تحت رحمة الاحتجاج المحلي، فهذه كلها مسائل نسبية جدا أمام المكسب التاريخي الذي يقاس زمن التقدم في شأنه بالقرون ويدخل في باب البناء الحضاري.
و حتى الإرهاب فإن نقطة ضعفه القاتلة أنه لا يؤمن بالتاريخ ولا بالتطور الحضاري، من خلال سعيه اليائس إلى شد الأفراد والمجموعات بالمسامير إلى اللحظة الأولى والنهائية بالنسبة إليه، لحظة انبعاث الدعوة الإسلامية، رافضا الجانب التاريخي حتى لتلك اللحظة نفسها، والخلافات والصراعات البشرية - بشرية التي حكمتها، من أهم تجلياتها أن كل الخلفاء الراشدين باستثناء واحد ماتوا مقتولين. والديمقراطية هي القادرة وحدها على قهر الإرهاب، لأنها تمكن من مصارعة «الإيمان بخروج الإنسان من التاريخ» بـ«الإيمان بقدرة الإنسان على صنع التاريخ»، بحريته وكرامته واعتزازه بقدرته الفردية والجماعية على بناء مستقبله والتحكم في مصيره.

وإذا لم نذهب إلى مواجهة الإرهاب ونحن لسنا مؤمنين بأننا نحن على حق وهو على باطل وأننا نحن الرابحون وهو الخاسر فكيف سنتغلب عليه؟ الديمقراطية هي أجمل ما في الكون. والهيبة فيها للشعب وليس للدولة إلا بقدر ما تكون الدولة منفذة لقرار الشعب. حيث أن هيبة الدولة من هذا المنظور لا وجود لها خارج تكريس القواعد التي يضعها الشعب لسياسة نفسه وترويض قواه الداخلية، بما يخدمه في مجموعه وليس لفائدة فئات على حساب فئات أخرى. حيث أن الفئوية ليست هي الديمقراطية بل قد تكون قاتلة لها. لكن الديمقراطية لا تستقيم باستغلال الانحراف الفئوي لمقاومتها أو الحد منها.

وحرية النقد هي عماد الديمقراطية ولو كانت بشكل متهور أحيانا، لكن ذلك هو ثمن التدريب على الديمقراطية، في انتظار إرساء توازنات أكثر صلابة تبين حدود التدخل لمختلف الأطراف وتنقص من الخروج المفرط عن الموضوع. و للإعلام دور رهيب في البناء الديمقراطي وحل القضايا العالقة. لأن كل المسائل المطروحة على التونسيين مسائل عادية رغم حدتها و كل ملف له أكثر من حل واحد. إلا أن ما ينقصنا هو تحسين عقلنة الحوار وتمكين كل المؤسسات، في كل ميادين التدخل والاختصاص، بأن تلعب دورها برصانة وخارج أي شكل من أشكال الغوغائية والمزايدات. ونطلع يوميا من خلال الوسائل الإعلامية على انتقاد الأحزاب الحاكمة والحكومة لافتقارها إلى رؤية واستراتيجية، وهو انتقاد له كثير من المبررات.

لكن كم من حكومات في بلدان متطورة جدا لها استراتيجيات بالأطنان لكنها غارقة إما في البطالة أو في المديونية العمومية أو في الأزمة المالية أو في كلها مجتمعة. ذلك أن الأنماط الاقتصادية السائدة كونيا وبالخصوص الرأسمالية المتحررة من كل القيود قد أدت فيما أدت إلى أن مائة شخص أو عائلة أصبحوا يمتلكون ثروة تساوي ثروة كل باقي البشرية. إن هذا الاستقطاب الغريب والجنوني بين البلدان الغنية جدا والبقية وداخل نفس البلد بين الأثرياء جدا والبقية، بصدد إنتاج انسداد بشري شامل وجماعي رغم كل المكاسب التي تحرز عليها الشعوب. وهو ما يفيد أن التقدم ليس خطا سويا مستقيما سائرا بسلام دائما نحو الأفضل، وإنما يعني أن كل حل تجده البشرية يتحول إلى مشكلة جديدة، يقع السعي إلى حلها قبل أن يتحول الحل بدوره إلى مشكل... وهكذا دواليك. إذن ليست المسألة في المشاكل والحلول وإنما في إيجاد آلية تمكن من التفاعل مع ثنائيات المشاكل والحلول.

وآلية الآليات هي الديمقراطية، لأنها قادرة على صد الأبواب أمام مظاهر الانسداد. و«أما» الآليات المعنوية والثقافية فهي أن تعلق على كل أبواب القصور الحكومية والتنفيذية والتشريعية والوزارات والإدارات والمؤسسات العمومية يافطات مكتوب عليها «السيادة للشعب وحده وكل أنواع الحكام مجرد أعوان في خدمته». ونحن مفتقرون جدا لدفع قوي للثقافة الديمقراطية بمعناها التاريخي والحضاري، وإلا كيف نفسر أن مشروعا جميلا مثل مشروع نداء تونس يظهر أحيانا وكأنه مهدد بالنزول إلى أسفل السافلين نتيجة زعاماتيات ضعيفة وغير مقنعة. ومن بين القرارت الثقافية الطريفة وغير الإرادية، الترويج لتبادل التحية صباحا بـ«صباح الخير، صباح الديمقراطية». لأن الديمقراطية هي الخير العصري، وكل الخير في الديمقراطية.

بوجمعة الرميلي

المشاركة في هذا المقال