Print this page

برج بابل: نحتاج إلى جرعة من الوضوح

في المشهد العام الذي نعيشه هناك طلب على الوضوح. وينبني هذا الطلب على ضبابية الرؤية في كل المجالات. السياسي هو الذي يحدّد مضمون الوضوح، شكله وطرق تبليغه.

ويأتي الطلب على الوضوح من السؤال الذي يطرحه الجميع إلى أين نحن ذاهبون؟ ويأتي الوضوح من إجابات عديدة، منها قانون المالية الذي بالغ في وضوح، إذ أننا مقبلون على مرحلة جبائية باهظة الثمن للجميع.
ليس أصعب في السياسة من الغموض. الفعل السياسي في مفهومه البسيط هو قدرته على نزع الغموض عن كل المواطنين بالقدر الذي يجعلهم قادرين على قراءة ما يحيط بهم. والغموض هو حالة من اللاّمعنى يفقد فيها الفاعلون السياسيون مقود الحياة السياسية ويفقدون فيها الإجابات الواضحة عن وضع شائك لا يتحكمون في تفاصيله. إنه من السهل الدخول في منطقة الغموض، ولكن من الصعب الخروج منها. جزء كبير من الفعل السياسي في تونس يقع ضمن دائرة الغموض، ويبدو أن هذا الغموض قد يدفع الكثيرين إلى الالتجاء إلى قراءات موغلة في التشاؤم لما يدور حولهم من أحداث وهم محقون في ذلك.
كانت هناك تجربة فريدة في الخروج من غموض شامل، إنها تجربة الحوار الوطني التي أعطت للفرقاء السياسيين إمكانية أن يتخلصوا من ورطة سياسية كادت تؤدي بالبلد إلى ما يشبه حرب عصابات سياسية. ولكن بالقدر الذي نجح فيه الحوار الوطني في تجاوز غموض أزمة حكم في تلك الفترة أي في سنة 2013 إلا أنه لم يتحول إلى مؤسسة قائمة تتولى إزالة الغموض كلما كان هذا الغموض مؤثرا بشكل سلبي على سير دواليب الدولة. في الاتصال السياسي الحوار والإنصات ضروريين للخروج من الغموض وهذه أبسط أبجديات الفعل السياسي.

الغموض ليس سياسيا فحسب، إنه غموض اقتصادي أيضا. وهنا نأتي إلى البرامج التي ستدخل بها الحكومة سنة 2023 بإكراهاتها المالية الكبرى. منوال التنمية الذي لم يتغير منذ ما قبل الثورة يحتاج إلى رؤية جديدة وإلى قواعد مؤسسة تُدار بها عملية خلق الثروة بأكثر ما يمكن من الجدوى ومن العدالة. ونعتقد أن الاقتصاد الريعي هو اقتصاد ينتعش من غموض القوانين ومن غموض تطبيقها ومن غياب المحاسبة ومن ظهور فاعلين اقتصاديين يتحركون ضمن دائرة الغموض وهو ما جعل الاقتصاد الموازي بأشكاله المختلفة يهيمن على المشهد ويتحكم في مقاليده.
الغموض في تونس مشهد عام وهو لا يمسُّ فقط الشأن السياسي والشأن الاقتصادي، إنه الوصف الذي ينطبق على كل المجالات بلا استثناء، ولهذا نحن في أزمة شاملة. أينما توجهنا يلفنا الغموض، ماذا فعلنا في إصلاح المنظومة التربوية؟ ماهي رؤيتنا للطاقات البديلة؟ كيف نتصرف إزاء ظواهر اجتماعية خانقة و أولها الهجرة غير النظامية؟ وماذا عن المبادرات السياسية التي تطمح إلى المساهمة في الخروج من الأزمة؟

تبدو كلفة الخروج من الغموض باهظة على السياسي ولكن هذه الكلفة تكون أكثر وقعا على البلد حين يتولى الناس بأنفسهم تحقيق رغبتهم في إزالة الغموض ويصطف كلّ طرف وراء غموضه، وهنا يصعب كثيرا التخمين فيما سيؤول إليه الوضع. ولهذا من الأجدر الدخول في بيداغوجيا الوضوح، وهو يعني من ضمن ما يعنيه الاعتراف بالأخطاء وإبراز كيفية تجاوزها والإعلان عن الطموحات الممكنة وطرق تحقيقها. غير ذلك لا يمكن السيطرة على الكلفة الاجتماعية للغموض وهنا يدخل السياسي الذي من المفترض أن يدرك اللعبة السياسية التي لا يمكن أن تنجح إلا بجرعة مطمئنة من الوضوح.

المشاركة في هذا المقال