Print this page

خفايا ومرايا: الشعبوية الرثة

بات مصطلح «الشعبوية» شائعا في الخطاب السياسي في تونس والظاهرة محلّ بحث واهتمام من طرف النخب والمختصين لفهم ما يجري بالبلاد،

وفي الحقيقة فإنّ هذه الظاهرة ليست بجديدة على العالم، فلقد برزت كخطاب وتيار منذ أواخر القرن التاسع عشر وتضخّمت بأروبا في حقبة ما بين الحبين العالميتين وهي مازالت تظهر من حين لأخر خاصة في وقت الأزمات كمشاريع سياسية ومجتمعية بديلة
وهذه الظاهرة لا تعرّف على كونها منهج فكري أو إيديولوجي نظرا لاختلاف الأشكال التي تتّخذها من بيئة إلى أخرى والتي يمكن أن يتراوح خطابها من أقصي اليمين إلى أقصى اليسار بالرغم من أنّها تقوم على قواسم وأفكار عامّة مشتركة، كما يقول حول ذلك الأساتذة «حمّادي الرديسي» و»حفيظة شقير» وصحبي الخلفاوي» في الكرّاس الذي أصدروه بصفة مشتركة تحت عنوان « la tentation populiste « كالآتي» العداء للنخب وللمؤسسات الديمقراطية وللمعارضة وتنظر للفصل بين التمثيلية والديمقراطية.
وفي نفس السياق يشير كلّ «كاس مودي» وكريستوبل روفيرا كلتواسر» إلى أنّ قادة سياسيون يستغلون الكاريزما التي يحظون بها للتلاعب بأفكار الناس وعواطفهم لغايات سياسية، حيث يعتبرون أنفسهم الصوت الوطني الأوحد المعبر عن الإنسان العادي، وعادة ما يميل القائد الشعبوي إلى رفض فكرة التنوع المجتمعي، وهو يؤمن دائمًا بضرورة التعارض بين النخب والشعب إذ تقوم الشعبوية على تجاوز مؤسسات الدولة الرسمية وكذلك رفض نخبة معينة سواء كانت هذه النخبة حقيقية أم مفترضة، والتي تـّهم دائما بكونها عائقًا أمام سلطة الجماهير ولذا يجب إقصاءها وهو الأمر الذي يمثل توجهًا ضد الديمقراطية»، وهذه هي أوجه الشبه عديدة بين مختلف الشعبويات التي قامت في العالم على مرّ التاريخ «الشوفينية « «التعصب» « الديماغوجيا» و»رفض التنوع والتعدّد.

وقد بلغت «الشعبوية أوجها بوصول «ترومب « كرئيس لأمريكا أقوى دولة العالم واعتمد سلوكا غير مألوف فيه نوع من الاستخفاف بالمؤسسات وبنواميس العمل السياسي وخطابا عنصريا فجا اتجاه العالم وحتى اتجاه فئات معينة من المجتمع الأمريكي وعموما شعبوية العالم الغربي تكتسي طابعا يمنيا متطرّفا معادي للأقليات و للمهاجرين» وللفئات الهشة من المجتمع وذلك عكس أغلب الشعبويات التي تظهر بأمريكا اللاتينية والتي تعتمد خطابا «يسراويا» بإثارة مشاعر الفقراء ضد الأغنياء وتدفع إلى التطاحن الطبقي لتحقيق أغراضها.
وبالرغم كلّ ما فيها من جوانب مظلمة فإنّ لهذه الشعبويات شيء من المنطق مقارنة ببعض التجارب التي حصلت بالعالم العربي وأبرزها تلك التي حصلت بليبيا حين حوّلها العقيد معمر القذافي على حقل تجارب لتصوّراته وأفكاره بفرض ما يسمّى ب»النظرية العالمية الثالثة» وكتابه الأخضر، فإنّ تلك الشعبويات لم تدعو لنسف المؤسسات ولم تمكّن زعماءها من كسب نفوذ فردي فوق القانون ولم تخرج عن حكم صندوق الانتخاب الذي يمكن من خلاله التخلّص منها، وذلك عكس الشعبويّة التي تمكّنت من الدولة التونسية منذ اكثر من عام والتي أخذت في نسف مؤسسات الدولة منذ أوّل خطواتها وإفراغ الساحة من القوى السياسية والمدنية واعتماد أسلوب فردي في إدارة شؤون الدولة غير مسبوق وهي تختلف حتى على تلك التي قامت في ليبيا زمن العقيد معمّر القذافي والتي تتشابه معها في العديد من النقاط، فلقد ساعدت عائدات النفط الليبي المهولة العقيد القذافي في تكريس شعاراته ب، من تحزب خان، واللجان في كلّ مكان والزحف الجماهيري على المؤسسات بالداخل والصمود في وجه الحصار المضروب عليه من الخارج لسنوات والبقاء في الحكم لأكثر من أربعين عاما قبل أن ينتهي بمأساة اغتياله على يد قوات الناتو ومجموعة مسلحة ليبية في أكتوبر2011، لكن الشعبوية بتونس لم يمضي على ظهورها طويلا حتّى اتّضح كيف أنها تتخبّط في تناقضاتها، فمن جهة رفعت شعار السيادة ورفض هيمنة القوى الخارجية على سياستها ومن جهة أخرى ذهبت تطرق باب صندوق النقد الدولي للحصول على قرض بالشروط التي يضعها ومن جهة أخرى تبرّر مجيئها لرفع الضيم على الفقراء والمهمّشين فإذا بهؤلاء يدفعون باهضا ثمن عجزها وفشلها الاجتماعي والاقتصادي، من جهة تعد بالتنمية وخلق الثروة والشغل ومن جهة أخرى تضع الفاعلين الاقتصاديين تحت رحمة هيئات لا تختلف في مفهومها عن هيئة «الحقيقة والكرامة» لاستخلاص الأموال منهم لتمويل مشروع «الشركات الأهلية» الهلامي، وأخطر ما هذه الشعبوية ليس فقط خطابها العدائي لكلّ من يختلف معها وحتى لمن لا يتماهى معها بل هو في إنكارها الغريب للواقع وفي إصرارها في تحويل حكمها إلى حكم أقلية « نظيفة ومؤمنة برسالتها» على أغلبية «ضالّة « تأبى الاعتراف بأفضالها.

المشاركة في هذا المقال