Print this page

برج بابل: دولة أعوان التراتيب

لم يدرك الشاب أن يومه سينتهي بطريقة دراماتيكية. رتّب له أعوان التراتيب البلدية انتحاره بإجراء بارد. نزعوا له ميزانه الذي يقدّر به الأشياء

ولكنه لم يستطع تقدير غضبه فاختار في حالة ما إنهاء حياته بعيدا عن الأنظار قريبا من المعاناة. هناك خوف كبير من أعوان التراتيب البلدية في تونس، يتحكمون في مفاصل حياة الناس وأنشطتهم المختلفة، علاقتهم مثيرة بالرخص التي تمنحها الدولة للقيام بأي نشاط. يحوزون على قرب الناس منهم خوفا، أكثر منه احتراما كساهرين على تطبيق القانون. إنهم أجسام وسيطة محلية بين الدولة ومواطنيها، ولكن هذه الأجسام الوسيطة غير قادرة على الوساطة الفعلية، الوسيط محايد وحريص على أن تكون وساطته مانعة للصراعات والتناقضات وساطة تعديلية. ولكن أعوان التراتيب البلدية لحقت بهم صورة سيئة مليئة بالمحاباة والزبونية والفساد.

شاب في مقتبل العمر يجاهد من أجل لقمة العيش، ربما لم يستطع مثل أقرانه المشاركة في هجرة غير نظامية. أراد أن يتحايل على المعاش وأن يجد له موقعا في سوق يومية يبيع الخضر والغلال. تقع مطاردته ليخلي سبيله لمن يدفع أكثر ولكنه رفض ذلك. لم يدخل في منطق بعض أعوان التراتيب الذين يشكلون سلطة محلية لا رادع ولا مراقب لها. لقد تمت معاقبته لأنه يعمل ولأنه اختار ما يناسب قدراته. اصطدم الشاب بمنطق السوق الشرس، لم يدخل في ألاعيب السوق ومتاهاته، ربما لايزال يافعا ليفهم ذلك.
المسافة بين الشعور بالقهر والانتحار قصيرة. قصر المسافة آت من أن جزءا من حياة الناس والشباب على وجه الخصوص تديرها المشاعر. مشاعر الخوف والقلق ومشاعر الاحتقار، مشاعر القهر والهزيمة. كل هذه المشاعر حين تهيمن على حياة الشاب يمكن وبسهولة أن تدفعه إلى ارتكاب أي سلوك محفوف بالمخاطر. الشبان الذين انخرطوا في شبكات الإرهاب كان دافعهم في ذلك حدث يومي مهين عائلي أو غيره. جدث بسيط في شكله عميق في تداعياته. يذكر أحد الشباب المنخرطين في شبكات الإرهاب أن قراره كان تحت طائلة اعتداء أمني في ملعب كرة قدم لم يجد له أي تفسير. أحسّ بالإهانة وفي لحظة ما أخذ قراره.

يشكل جسم أعوان التراتيب البلدية الذي أصبح شرطة بلدية منذ سنة 2017 جسما أمنيا بما أنه ألحق بإدارة الأمن العمومي ويخضع لشروط العمل لهذه الأخيرة. لقد كان أعوان التراتيب البلدية قبل ذلك الحلقة الأضعف في تطبيق القانون بما أنهم يفتقدون ولو ظاهريا للصبغة الأمنية الكلاسيكية وهو ما جعلهم في نظر المواطنين أعوانا يسهل إلى حدّ ما التفاوض معهم. كان وجودهم تحت إشراف البلديات معدلا لسلوكهم الرقابي والردعي. وبما أنهم أصبحوا الآن أعوانا أمنيين فإن سلطتهم تضاعفت وهو ما زاد في تعقيد الأمر بحلول مقاربة أمنية دون غيرها من المقاربات.
لم تتخلص الدولة إلى حدّ الآن من الثقافة المركزية في تسييرها لشؤونها، ولم تدرك أن هيمنتها على كل المفاصل ومراقبتها لكل شيء تقريبا هو حاجز أمام أي إقلاع اقتصادي. والتنظيم الإداري المتبع إلى حدّ الآن والذي انتهى مفعوله منذ سنوات هو الآخر مكبّل لديناميكية شاملة نحتاجها الآن في مرحلة الانتقال الديموقراطي. إن هذا الانتقال ليس فقط عملية سياسية أو انتخابية، هو أيضا تغيير في الأسلوب الإداري المتبع وفي الإجراءات المنفرة لأي استراتيجية تنموية محلية. إذ أن كل وثيقة إدارية وكل إجراء إداري إضافي فيه إمكانية أكبر للفساد، هو أمكانية للابتزاز الإداري وتوسيع لمسالكه. وإذا اعتقدت الدولة أنها بثقافة النسخ المطابقة للأصل والتعريف بالإمضاء وإتيان الرخص للعمل الهامشي ستكون قوية باستمرار، فإنها على العكس من ذلك ستكون دولة ضعيفة باستمرار.

المشاركة في هذا المقال