Print this page

خفايا ومرايا: كما تكونوا يولّي عليكم

التاريخ لا يعرف لا القسوة ولا يعرف الشفقة، كلّ أحكامه دقيقة بشكل يكاد يلامس «العدالة الإلاهية» لا زيادة فيها ولا نقصان

فهو لا يمنح الشعوب إلا المكانة التي تستحقّها، لذلك لا توجد أية غرابة في ما يحصل على الساحة السياسية بتونس وأخره القانون الانتخابي الذي أصدره قيس سعيد وقد جاء متناسقا تمام التناسق مع أفكار صاحبه وحلقة تنضاف لسلسلة الحلقات التي انطلقت بالاستشارة الوطنية وصياغة «دستور جديد» وتنظيم «استفتاء» لاجتثاث المنظومة السابقة وإقامة الجمهورية الجديدة.

ولذا فالتباكي على ضياع مكتسبات المرأة والشباب من حاملي جنسيات ثانية من الترشح وشروط الترشح وتقسيم الدوائر وطريقة الاقتراع لن يجدي المتباكين نفعا ولن ينقذهم من المصير الذي ينتظرهم.

فوضع قدم هنا وهناك والانتهازية والغفلة نتائجها معروف في السياسة والوضع الذي وصلت إليه البلاد والحالة التي صارت عليها الدولة ومهما كانت التبريرات والتأويلات هي مسؤولية المجتمع بكلّ شرائحه، لكن هنالك من سيعترض على هذا الحكم وحشر الشعب مع باقي الشرائح لأنّه لا مسؤولية له في وضع السياسات وهو بريء من موبقات الحكم، والمقصود بالشعب هي الفئات الأضعف في المجتمع والتي عادة ما تكون الخزان الانتخابي المتنازع عليه من طرف الأحزاب دائما التغافل عن دور الشعب أو الشارع أو الرأي العام مهما كانت التسمية، وفي الحقيقة فإنّ دوره يتجاوز الخزان الانتخابي وفعله السياسي وإن كان لا يمكن حصره في إطار محدد فإنه بالغ التأثير وأحيانا يكون حاسما، فمن أعطى للنهضة في مرحلة الترويكا ذلك الدعم اللامحدود بحجة أنه البديل «المتدين» «ويخاف الله» ولم يمنح الفرصة لقوى «علمانية» وديمقراطية» طالما أخلصت للشعب كافحت بوسائل وإمكانيات محدودة ، وما كان لتجربة النداء أن تنتهي تلك النهاية الكارثية لولا الموالاة العمياء العريضة لزعيم الحزب ودوائر زعيم الحزب واستبعاد الفئات اعترضت على الانحراف بخط الحزب وإقصائها من المشهد فتلاشي ذلك البناء في رمشة عين وخلف مشهدا منقسما ومتشظيا، الكثير الكثير من الأمثلة للسلوكيات الجماعية التي مهدت لمثل هذا الوضع الانجرار وراء زعامات زبونيه والخطابات الثأرية والإقصائية، أكيد أنّ المسؤولية ا تعود على الأحزاب وعلى المجتمع المدني بدرجة رئيسية، لأن تلك الأحزاب مسؤولياتها صنع السياسة والحلول وهي التي تملك وسائل تثقيف الجمهور وتأطيره، لكن في ظروف معيّنة يجب القطع مع تلك النظرة «التقديسية» للشعب وإفهامه بأنّ له

مسؤولية في كلّ ما يحدث وأنّ أحزابه ومؤسساته وزعاماته هي انعكاس لدرجة وعيه والتزامه وبأنّه هو من سيتحمّل نتائج اختياراته كما جاء في الحديث المنسوب للرسول (صلعم) « كما تكونوا يولىّ عليكم» أو في مقولة للسياسي الفيلسوف من سردينيا joseph maistre» toute nation a le

gouvernement qu’elle mérite». وحتى الأحزاب لن يفيدها لعب دور ضحية انقلاب ورئيس يريد احتكار كلّ السلطات لنفسه، وكلّها سواء التي عارضت من البداية أو التي اعترضت في منتصف الطريق أو التي سايرت وصادقت طمعا في انتزاع بعض الفتات وفي النهاية لم تجد حسابها بالقانون الانتخابي وغيره في طريق الاندثار، ولحدّ اليوم لا تختلف في وعيها عن العامّة، فهي لم تفهم أنّ قيس سعيد لن يتزحزح عن خط سيره ولو تشح كلّ خزائن الدولة من الموارد المالية وتنفذ كلّ المواد من السوق، وأنّ مراهناتها على استفحال الأزمة وتغيّر مزاج الرأي العام لن يجديها نفعا لأنّها لحدّ الآن تبدو عاجزة على تقييم العشرية المنصرمة التي تُحمّل لها وزرها وتتخلى عن إنكار مسؤوليتها وتبيان العوائق الموضوعية الخارجة عن نطاقها، ربّما يفتح لها ذلك الطريق لتجديد شرعيتها وتقنع فئات «الشعب» الواقعة تحت تأثير وصم العشرية الفائتة بـ»عشرية الخراب» والداء للنخب بأنّ ما زال لها دور فيس المرحلة المقبلة.

والرئيس قيس سعيد نفسه ليس في الوضع المريح الذي يتصوّره البعض، فبالرغم من أنّه بنى خطابه على إدانة «العشرية الفائتة» وتجريم كلّ من تحمّل المسؤولية فيها، فهو لا يمكن أن يمحى انّه وليد تلك العشرية التي كان له دور فيها سواء بمداخلاته الإعلامية سواء كخبير في القانون الدستوري أو كرئيس دولة منذ ثلاث سنوات، والصك الذي منح إليه لوضع حدّ لحكم أحزاب المنظومة السابقة ليس بنفس القدر من التوسع الذي سمح به لنفسه، وإذا تواصل تدهور الوضع المعيشي بهذا النسق فقد يجد نفسه يتحمّل مسؤوليّته لوحده كما اختار أن يصوغ المستقبل السياسي للبلاد لوحده، لقد بات واضحا أنّ خطاب الوعود والوعيد لم يعد كافيا لإثارة حماسة الأنصار والأتباع وأنّ كثيرا منهم صار لا يخفي شكّه في نظرية تآمر المحتكرين ويشير إلى ضعف أداء حكومة الرئيس وفشلها في إيجاد الحلول.

ورغم اعتراف طيف واسع من التونسيين بقتامة هذا المشهد لكن لا احد تحرّك لفتح ثغرة فيه بل هنا من يدفع للتعجيل ببعض الحقن المسكّنة حتى بلوغ موعد 17 ديسمبر لفرض أمر واقع جديد... لكن هل فعلا يمكن للانتخابات أنت تكون هي الحل لهذه الأزمة المتعدّدة الأوجه ...أم أنّها ستعمّق الشرخ بين مجتمع مريض يرفض أن يموت وبين مجتمع معلّق في دنيا الأوهام.

 

المشاركة في هذا المقال