Print this page

معركة السيادة على صفيح الأزمة

لم يكد يمرّ أسبوع على الاستفتاء الذي دعا إليه الرئيس للتصويت على الدستور الجديد حتّى اشتعلت كل خطوط التماس السياسية والإعلاميّة

في تونس احتجاجا على تصريحات المرشح لتولي منصب سفير أمريكا بتونس، والتي جاءت أثناء عرضه للأهداف التي حددها لمهمته أمام لجنة السياسة الخارجية بالكونغرس الأمريكي وليست المرة الأولى التي تحدث تصريحات مسؤولين أمريكيين ضجة وردود فعل غاضبة من تونس، وكان ذلك بسبب المواقف الأمريكية المعلنة من مسار 25 جويلية والتي كانت معظمها محترزة من القرارات والإجراءات التي يتخذها الرئيس قيس سعيد، لكن تلك التصريحات الصادرة عن الإدارة الأمريكية في مستويات مختلفة كانت أقل ّإزعاجا من تصريحات هذا المسؤول بسبب توقيتها ومضمونها، فقد جاءت إثر الاستفتاء والذي كان في توقعات دوائر الرئيس أنّه سيجعل الإدارة الأمريكية ترفع كلّ احترازاتها السابقة وتنخرط في تأييد مسار 25 جويلية دون تحفظ، ومن جهة ثانية كشف هذا المسؤول عن نيته في جر تونس إلى التطبيع مع إسرائيل على غرار عدة دول عربية وهذا فيه إحراج للسلطة بتونس خاصة وأنّ الدستور الجديد لم يتضمن تجريم التطبيع كما كانت تطالب بذلك بقوة في السابق أطراف باتت من أهمّ داعمي الرئيس.
وفي الحقيقة الخلافات التونسية الأمريكية بخصوص الشأن الدّاخلي التونسي ليست وليدة اليوم وتعود إلى ما قبل الثورة، فلقد كشفت تقارير ويكليكس عن حجم الضغوطات التي سلّطت على الرئيس بن على في أواخر عهدته وكيف توالت زيارات وزراء الخارجية الأمريكية لإجباره على إجراء تغييرات عميقة على نظامه والإعداد لانسحابه من الحكم ممّا تسبب في حادث ديبلوماسي بينه وبين كوندوليزا رايس حين قطع بن علي في إحدى المرات لقاءه معها ورفض مواصلة الاستماع إليها .
وحتى أيام الزعيم الحبيب بورقيبة، كانت مسألة السيادة الوطنية مطروحة بقوّة مع حلفاءه وخصومه، وقد كانت له رؤية مغايرة لأغلب الزعماء العرب حولها في تلك المرحلة، ففي ديسمبر 1972 شهدت قاعة البالرماليوم بالعاصمة مناظرة على المباشر بين الرئيس الحبيب بورقيبة والعقيد معمر القذافي الذي جاء في زيارة إلى تونس لدعوة بورقيبة للوحدة الاندماجية بين البلدين، فكان بورقيبة في تلك المناظرة أراد أن يبدو أمام ضيفه كالأستاذ مع تلميذه، تلك المناظرة كشفت عن الشرخ الذي يقسم الدول العربية في تلك المرحلة، لقد اختار بورقيبة الارتباط بالمعسكر الغربي على أساس أنّ ذلك هوالسبيل الوحيد لتدارك الفجوة الحضارية والعلمية مع تلك الدول المتقدّمة التي تحتكر المعرفة والعلوم لبسط هيمنتها على الدول المتخلفة، وقد كلّفه موقفه ذلك عداء معسكر الدول العربية الذي كانت تتزعّمه مصر آنذاك والذي كان يتهمه بالعمالة للغرب، لكن الأحداث والتاريخ أثبتا التاريخ صحة وجهة نظر بورقيبة وقد اعترف له بذلك العديد من القادة العرب، فلقد نجح في ما فشلت فيه دول عربية أكبر وأغنى من تونس، حافظ على قدر كبير من استقلالية مواقفه وقراره، ونأى بتونس من مخاطر التقلبات الإقليمية دون أن يتخلى عن تضامنه مع القضايا العربية وكفاح الشعوب من أجل استقلالها، عرف كيف يخلق نوعا من التوازن في علاقاته مع حلفاءه ومع المعسكر السوفياتي والصين الشعبية مما جعله يستفيد من مساعدة تلك الدول العظمى المعادية لأمريكا في إنجاز عدّة مشاريع هامّة، بل بدهائه وقدرته على المناورة خلق نوعا من المنافسة بين المعسكرين من أجل الوصول إلى غاياته، لقد أحد وزراءه السابقين بأنّه في إحدى المرّات خلال السبعينات شهدت المحادثات التونسية الأمريكية حول بعض المساعدات شيئا من التّعثر، فدعا بورقيبة نكولاي بودغرني رئيس مجلس السوفيات الأعلى لزيارة تونس سمح للأسطول السوفياتي بالعبور في المياه الإقليمية التونسية فسارعت الإدارة الأمريكية إلى حلّ الإشكال وتلبية رغبة الطرف التونسي، لكن الواقعية والبراغماتية التي كان يعتمدها في سياسته الخارجية لم تكن بالنسبة إليه الانبطاح والتساهل مع أي تجاوز على السيادة التونسية، فلقد جنّ جنونه إثر الغارة الإسرائيلية على مقر منظمة التحرير الفلسطينية في حمام الشط بضواحي العاصمة، فاستدعى السفير الأمريكي وتوجه إليه بكلمات قاسية لم يسبق له أن سمعها سفير أمريكي في دولة تقع مناطق نفوذ دولته وحذره من استخدام أمريكا حق الفيتو بمجلس الأمن لأنّها حينها سيراجع موقفه منها بصفة جذرية، وقد أخذت الإدارة الامريكية تحذيره على محمل الجد ولم تستعمل حق الفيتو كما تعودت على ذلك لتعطيل كل قرار ضد «إسرائيل» عن الصدور وذلك لأول مرة منذ اندلاع الصراع العربي الإسرائيلي.
أكيد أنّ العديد من المعطيات والعوامل تغيرت منذ وذلك التاريخ إلى اليوم وأنّ الديبلوماسية التونسية لم تعد تمتلك نفس الأوراق التي كان يمتلكها الزعيم بورقيبة لحماية القرار الوطني، والخطر كلّ الخطر السقوط في الارتجال في مثل هذه المواقف، كما أنّه لا يمكن السكوت عن الابتزاز واستغلال الظروف لفرض موقف خطير على الدولة فإنّه لا يجب القفز على الواقع الجيوسياسيي في العالم والانسياق وراء تلك الدعوات الساذجة في الذهاب مباشرة نحو شراكات جديدة مثل روسيا والصين والتخلي عن الشراكة مع أمريكا وأروبا، يبدو أنّه من المستبعد أن تتفاعل الجهات الرسمية مع مثل تلك الدعوات لخطورتها على المصالح الوطنية ، فقد كان بيان وزارة الخارجية لينا ومعتدلا وجاء فيه لوم وعتاب على الإدارة الأمريكية أكثر منها إدانة، لكن هذا غير كاف لتحصين القرار الوطني من التدخل الخارجي، فمن الوهم الاعتقاد بأنّ شحن الجماهير وتغذية الشعارات المعادية لكلّ أنواع العلاقة مع الخارج وزرع روح المظلومية لدى جزء من الشعب سيغير وجهة نظر الخارج نحونا، بقوة ووضوح السياسات وتماسك جبهاتها الداخلية تفرض الدول احترامها على حلفاءها وخصومها على حدّ .

المشاركة في هذا المقال