Print this page

منبــــر: حرية التفكير أم حرية الضمير

سنة 2014 أتذكر أني فرحت بإدراج حرية الضمير في الفصل السادس من الدستور التونسي. وتابعت وقتها الدور الأساسي الذي لعبه المفكر عياض بن عاشور

للتحسيس بأهمية هذا المفهوم من خلال حملة كان لها وقع كبير في الأوساط الفكرية والسياسية في تونس. وكان النقاش على أشده بين أنصار حرية الضمير وجحافل الاخوان ومن لف لفهم من الاتباع والمتطرفين. فمع الإقرار بحرية الضمير الواردة في الفقرة الأولى من الفصل السادس والذي يقول : «الدّولة راعية للدّين، كافلة لحرّيّة المعتقد والضّمير وممارسة الشّعائر الدّينيّة، ضامنة لحياد المساجد ودور العبادة عن التّوظيف الحزبي». عمد نواب حزب النهضة وأتباعها إلى إضافة نقيض هذه الفقرة حيث نقرأ : «تلتزم الدولة بنشر قيم الاعتدال والتسامح وبحماية المقدّسات ومنع النيل منها، كما تلتزم بمنع دعوات التكفير والتحريض على الكراهية والعنف وبالتصدي لها».

طبعا ليس هذا هو التناقض الوحيد الموجود في الدستور التونسي ولكن، لا بد من الإشادة بأنّه ولأول مرة في تاريخ تونس يتم التنصيص بصريح العبارة على «حرية الضمير». وهذا أمر محمود في حد ذاته.

من الناحية العملية، شاهدنا تطبيقا لمبدأ حرية الضمير ولنقيضه. فلم تتوان وزارة الداخلية في إصدار المناشير التي تمنع فتح المقاهي خلال شهر رمضان، ومن معاملة المفطرين وكأنهم مجرمون ومن إيقاف بعض المفطرين واتهامهم بالإجهار بالإفطار وعرضهم على المحاكم. كل ذلك من منطلق حماية المقدسات ومن مبدأ ضرورة احترام المفطرين للصائمين. طبعا، ثمة في هذا الشأن سوء فهم غريب لمبدأ الاحترام. وقد اعتبر الفيلسوف الألماني الاحترام قاعدة باعتبار أنه يمثل قانونا أخلاقيا. وبهذا المعنى، فإن الاحترام كونيٌ ينطبق على كل كائن عاقل. لذلك، فمن الأخلاق أن يعتبر كل إنسان أن غيره من البشر جدير بالاحترام. يقول كانط :» لكل إنسان الحق في الطموح إلى احترام غيره والعكس بالعكس، وهو مضطر إلى احترام كل فرد على حدة». يعني ذلك أن ما نسميه احتراما لا يمكن أن يكون في اتجاه واحد مثل احترام المفطرين للصائمين بل لكي يكون الاحترام احتراما حقيقيا، لا يبد أن يكون متبادلا أي احترام المفطرين للصائمين واحترام الصائمين للمفطرين. فمن الناحية الأخلاقية، ما قيمة الصيام إن كان الإنسان عاجزا على رؤية المفطرين أو أنه يعمد إلى إذلالهم لكي يشعر بتفوقه عليهم، باعتبار أن الحق من جانبه، وأن الباطل من جانب الآخرين.

ورغم ذلك، شاهدنا أيضا بعض الحكام يطلقون سراح المتهمين بالتجاهر بالإفطار بالاعتماد على فكرة حرية الضمير. فكأننا حيال قانون ذو وجهين، إن كان الحاكم مستنيرا فسيستند إلى الجزء الأول من الفصل السادس وإن كان محافظا فسيستند إلى الجزء الثاني من الفصل السادس.

تعود اليوم هذه المسالة بقوة بمناسبة ما يسمى بإعداد دستور الجمهورية التونسية الجديد. وقد أثار كلام العميد الصادق بالعيد بخصوص الاكتفاء، في الدستور الجديد، بالتنصيص على حرية التفكير والتخلي عن التنصيص عن حرية الضمير، نقاشا وتحفظات أعتقد أنه من المفيد العودة إلى التوضيح المفهومي رفعا للالتباسات الممكنة وتنبيها لما يكتسيه مفهوم حرية الضمير من أهمية رمزية تتجاوز مجرد المعنى الاصطلاحي لترتقي إلى البعد الحضاري والثقافي تمكنت أوروبا من تحقيقه ولم نفهم بعد مدى أهميته في تدعيم حقوق الإنسان واسقلالية الأشخاص وحمايتهم من كل أشكال الإقصاء والتهميش.

ماذا نقصد من خلال عبارة حرية التفكير؟
لكي لا ندخل في اعتبارات نظرية معقدة يكفي أن نذكر أن مطلب حرية التفكير قد ارتبط بوجود الفلسفة منذ سقراط . فقد ارتبطت فكرة حرية التفكير بالحذر المبدئي الذي يتطلّبه التفيكر النقدي ولا سيما التفكير الفلسفي. وقد ارتبط مطلب حرية التفكير بحرية الاعتقاد باعتبار أن مجمل ما ندركه ونعرفه إنما يكون في شكل معتقد يمكن أن يكون رأيا (opinion) كما يمكن أن يكون عقيدة (foi). لذلك، كان الشك في الاعتقادات التي نكوّنها أو نتلقاها أوّل خطوة في طريق التفكير الحر. غير أن سبينوزا قد نبهنا إلى أننا لا نكون في الحقيقة أحرارا إلا بقدر معرفتنا للأسباب التي تحدّد سلوكنا. لذلك، من الأجدر بنا أن نسعى من خلال تفكيرينا النقدي إلى التحرر عن طريق البحث عن الأسباب.

حرية الضمير
غير أن مسألة حرية الضمير، وإن كانت شديدة الارتباط بحرية الفكر لم تصبح مسألة أساسية في الفكر الأوروبي أولا، ثم في الفكر الإنساني عموما إلا بعدما عانت أوروبا من شتى أنواع الحروب التي أدت إلى جملة من المراسيم الملكية (édit). ففي فرنسا استمرت الحروب من1662 الى 1698 وانتهت بإمضاء مرسوم نانت سنة 1698 وقد أدى رفض لويس الرابع عشر لهذا المرسوم سنة 1685 إلى اضطهاد البروتستنتيين. لذلك لم يكن من باب الصدفة أن ينشر بايل (Bayle) كتابه عن التسامح «أرغمهم على الدخول» سنة 1686 وينشر لوك كتابه في التسامح سنة 1689. فمسألة حرية الضمير مرتبطة بصورة هيكلية بمسألة العقيدة وبالتزمت الديني الذي تمكنت أوروبا تدريجيا من التخلص منه فوصلت إلى حد دسترة حرية الضمير باعتبارها عنصرا أساسيا من عناصر الحرية الشخصية. يظهر ذلك جليا من خلال الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الذي يقول : « لكل انسان الحق في حرية الفكر والضمير والدين..». وقد دعمت معاهدات الوحدة الأوروبية ولائحة الحقوق الأوروبية الأساسية هذا المبدأ حيث نقرأ: «لكل شخص حق حرية التفكير والضمير والدين. ويتضمن هذا الحق حق تغيير الديانة أو الاعتقاد، كما يتضمن حرية التعبير عن دينه واعتقاده الشخصي أو الجماعي...».

تتميز حرية الضمير بموقف مخصوص حيال الدين. وذلك أمر ضروري اليوم في مجتمع مثل مجتمعنا صارت فيه المتاجرة بالدين ممارسة خطيرة تلعب دورا سلبيا في مجال التربية والثقافة، وتمثل عائقا عنيدا ضد انفتاح العقول على المعرفة والابداع بدافعها عن أصالة منغلقة ترفض التقدم، وتعيق الحرية الفردية، وتقاوم المبادرات الإبداعية بادعائها الدفاع عن الدين الحق وعن المقدسات التي لا تتوانى في تضخيمها وادعاء أنها في خطر بالاستناد إلى منطق المعارضة بين الأصيل والدخيل والشرق الغرب ودار السلم ودار الحرب. فلا يمكن أن تتغير العقليات عندنا إلا بالسعي إلى الاعتراف بالتنوع الاجتماعي والعقائدي الذي يميزنا. لذلك، فالقول بأن من حسن حظنا أننا شعب يدين بيدين واحد وبمذهب أشعري واحد، مغالطة دغمائية لا تعترف بحرية الضمير وبحق التونسي في الإيمان أو الإلحاد، وممارسة شعائره الدينية أو عدم القبول بها. لذلك، فالتنصيص على حرية الضمير في الدستور التونسي رهان أساسي لتدعيم الحرية الفكرية وحرية التعبير والتدين.

بقلم: الطاهر 
بن قيزة

المشاركة في هذا المقال