Print this page

اللاهثون وراء السراب

من أجمل القصص الدّيني هي قصة النبي موسى مع قومه بني إسرائيل، فبعد أن شقّ بهم البحر وأنجاهم من فرعون انقلبوا عليه واتخذوا لأنفسهم

إلاها يعبدونه، غير الرّب الذي دعاهم إليه، فكان جزاؤهم أن ظلّوا تائهين أربعين عاما في الصحراء إلى أن فني جيل الخطيئة تلك بكامله ولم يد خل منهم أحدا إلى أرض الميعاد التي كان وعدهم بها الرب كما جاء « في العهد القديم».
العبرة من قصّة موسى وبني اسرائيل، هي أنّ الحرية قد تحمل أصحابها إلى جحيم أقسى وأمرّ ممّا كانوا فيه إذا أُسيء التعامل معها
وقصّة تونس و»ثورتها» تكاد أن تتحوّل إلى أسطورة لما تشهده من أحداث وتّقلّبات مثيرة ودخولها في حالة من الضياع و»التوهان» لا أحد يعرف كيف لها أن تخرج منها.
بعد جانفي ،2011 ساد الاعتقاد أنها تخطت أخطر محطّة في طريقها ، وأنّها وصلت إلى ضفّة الدّيمقراطية بسلام وباتت في مأمن من خطر العودة إلى الوراء ، لكن لم تمض سوى إحدى عشرة سنة حتى وجدت نفسها تواجه خطر العودة إلى الدكتاتورية والحكم الفردي المطلق بصفة حقيقية، فلقد وضع الرئيس المنتخب يده على كلّ السلطات وأعلن نفسه الجهة التشريعية والتنفيذية الوحيدة في الدولة دون حسيب أو رقيب، ونجح في عزل كلّ القوى السياسية عن مواقع السلطة، وانطلق منفردا في وضع أسس نظام حكم جديد طالما وصفه بالمختلف عن كل نماذج الحكم في العالم .
، والسؤال الذي يطرح نفسه في هاته الحالة، كيف أمكن للرئيس تحييد القوى السياسية الماسكة بزمام الأمور في الحكومة وفي البرلمان، وكيف يخضع مؤسسات الدولة لإرادته بتلك السهولة والتي من المفترض أنّ المؤسسات المنتخبة محصّنة بالدستور وبالقانون،
قد يكون كفر جزء من الشعب باللعبة السياسية وبالخزعبلات التي وقعت فيها وراء ذلك، لكن ذلك قد يكون عاملا مسهلا لما أقدم عليه الرئيس لكن أن يكون هو العامل المحدد، إذن لابدّ من البحث في عوامل أخرى لفهم انقلاب الأمور رأسا على عقب،
وقد يكون البحث في ردّة فعل النخب هو المفتاح للكشف عن الأسباب العميقة التي أدّت إلى ما أدّت إليه بتونس، والملاحظة الأبرز هنا هي الانقسام الحاد الذي شقّ تلك النخب وقسمها بين مؤيد متعصب ومعارض ، وقد يبدو في أوّل وهلة بأن لا غرابة في ذلك، فهو أمر يتكرّر في كلّ المواقف تقريبا بما أنّ النخب لا تحمل نفس وجهة النظر ولا تستند إلى نفس المرجعيات
لكن وجه الغرابة هو أنّ نفس الأحزاب والفئات السياسية والعلمية في الساحة التي بنت كفاحها وشرعيتها على مناهضة الدكتاتورية وكلّ أشكال الحكم الفردي هي التي وفرت المبرّرات والفتاوي الأخلاقية لخرق الدستور واستبعاد خصومهم بقوّة الدولة، وقد فاتهم أنّ إيقاظ «الأغوال القديمة» « les vieux démons » قد يفتح شهيّة القوى الكامنة في أعماق المجتمع والتي لم تقتنع يوما بالمسار الذي سلكته تونس بعد 2011 لتعيد العجلة إلى الخلف وتنسف أحلامهم « اللذيذة» بديمقراطية لم تر النور بعد، لذلك وجدت تلك النخب بأحزابها وشخصياتها نفسها على قائمة ضحايا مشروع الرّئيس والذي صرّح بكلّ وضوح بأنّه لن يحجز لها مكانا إلى جانبه في بنائه الجديد،
قد يكن المأزق التي وقعت فيه تلك النخب يعكس مدى تعقّد الأوضاع بالبلاد، فمن جهة هناك شبه إجماع بأنّ المنظومة السياسيّة إلى طريق مسدود وباتت معطلة بالكامل وتستدعي رجّة غير عادية لإعادتها على السّكة، الشيء الذي ترفضه القوى التي كانت تمسك بزمام الأمور والتي تتشبث بالتقيد الحرفي بالنص، المصيبة في أنّ هؤلاء وبالرغم مما حصل وما يحصل على الساحة لم يخلعوا نظاراتهم القديمة ليروا نتائج سياساتهم على أرض الواقع، وأنّ المنعرج الذي أخذته الأمور وخلق مناخا ملائما لعودة شبح الدكتاتورية هو نتيجة للغرق في جدالات الهوية والعقيدة والانتماء وترك هموم الناس تتراكم جانبا والانشغال بتفكيك أوصال الدّولة وتشتيت السلطة التنفيذية وتوزيع المنافع والحصص والموالين، وبما أنّ إدارة شؤون الدول والشعوب لا يقوم على حسن النوايا فإنّ المؤسسات التي تم إحداثها وإثقال الدولة بها جاءت على شاكلة البناء الفوضوي ولم تصمد في وجه أوّل عاصفة سياسية قويّة تهبّ عليها، ، يوم واحد من التظاهر كان كافيا لإسقاط البرلمان والحكومة أعمدة المنظومة والأخطر من ذلك هو أنّ ذلك اليوم وضع حدّا لمخاض إحدى عشرة سنة وإلقاء الجنين الذي كانت تنتظره أجيال بعد أجيال على قارعة الطريق .
اليوم الكلّ اكتشف أنّ حكايات الخطر الداهم والمحاسبة واسترجاع الأموال المنهوبة وضرب الاحتكار والمضاربة وملء البلاد عدلا ومساواة المؤامرات والتآمر والغرف المغلقة والعشرية السوداء التي راهن عليها البعض ورفضها البعض الآخر لا تفتح إلاّ على طريق العودة بهم إلى حيث ما كانوا، وأنّهم ما زالوا بصدد الـتوغّل في رحلة التيه الأكبر وأنّ القدر لن يتدخّل لإنقاذهم وعيون الماء التي يرونها بدأت تتدفّق في الأفق لتروي عطشهم ما هو إلا سراب صحرائهم.

المشاركة في هذا المقال