Print this page

أشياء فلسفية: أتذكّر.. فتحضرني الذكرى ويغيب الماضي

الطفل أمام المرآة .. بينه وبين صورته عليها مسافة قصيرة يقفز فيقطعها: يضع الإصبع على الإصبع، ويزيد فيضع الثاني على الثاني

ويزيد فيضع الثالث على الثالث .. ولعل اللعبة تغريه فيضع الأنف على الأنف، والفم على الفم والجبين على الجبين. ويُثني اصبعه ليُطْبِق على إصبع المرآة فلا تقابله إلا ملاستها الصامتة، وعنادها الهادئ: يضحك فتضحك، ولكن ضحكتها لا تزيد لحظة عن ضحكته. ويتجهم وجهه فتتجهم، ولا تزيد عن تجهمه طرفة عين. يحتار أن يُطبق على نفسه، أن يمسك بهذا الذي هو رغم كل شيءٍ شيءٌ آخر أمامه: هو هو، ولكنه لا يمكنه أن يطبق عليه، ولا أن يطبق براحته على أي طرف منه. يدفع بجسده الصغير لعله ينفذ فلا يستطيع: المرآة أمامه، هي هو، وهو ليس هي. لكنه لا يعرف هل هي حقا هو، ولا يستطيع أن يتأكد من ذلك. هو يتأكد فقط من أنه ليس هي، مادام لا يقدر أن يطبق على نفسه الماثلة أمامه.

ما أكثر مرايانا: ربما كانت مرآة الطفل أول المرايا التي تعلمه أن بين تمثله وموضوع تمثله مسافة لا يمكن طيها بأية حال. وأنه حيال نفسه في وضع من عدم الإطباق.
أتذكر. يمكن أن أتذكر مناظر طبيعية تتراصف عناصرها وألوانها وعطورها وأصواتها، أو أن أتذكر مشاهد أو أحداثا تتوالى وتتسلسل فيما بينها. ولكن ذكراي لا تطبق على مذكورها. ذاكرتي تستحضر المشهد وهي عالمة بأطرافه من قبل أي طواف، ومستحضرة لأحداثه من قبل أيّ حدوث. ذاكرتي خيال أيضا لأنها «تستبق» أحداث الذكرى بل تستعرضها وكأنما تقع في لحظة لازمنية واحدة. دفعةً واحدة. ذاكرتي تعلم البداية والنهاية، وكل أطراف المشهد من قبل أي طواف. ذاكرتي تستحضر الذكرى تامة مكتملة. ويمكنها أن تتفرج عليها في مشهد مسجَّل أمين. لكنها لا تستطيع أن تعيشها. أو هي فقط تعيشها من جديد، حياة ثانية: تماما كهذا الطفل الذي يريد أن يطبق على إصبع المرآة فلا يمكّنه الإصبع من نفسه. ويظل بين الكفّ والكفّ شبَهٌ معانِد، محبِط، قُدَّ من غواية المماثل يُطلب فلا يدرك. تحضرني الذكرى، صورةَ مشهد، لا اعتراض على أمانتها ووثاقة تسجيلها، ولكنها لا تفي بالماضي. تحضرني الذكرى ولا يحضرني الماضي. فكأنما الماضي هو هذا الذي تعكسه المرآة ولكنه لا يمكنني الإطباق عليه: ما الذي تعكسه المرآة؟ أليس هو أنا؟ هل أنا لا أستطيع الإطباق على نفسي؟ لا يمكنني أن أعيش الماضي الذي أتذكره، ولا أن أنتقل إليه. أكتفي من الذكرى بتصديق: أنّها مطابِقة. أتذكّر .. أتذكّر.. تحضُرني الذكرى ويغيب الماضي. انتَهى حلمُ التطابق بين الماضي وذكراه. وكأنما تعوِّض الذاكرة عن هذا المفقود بأن تقرأه فتسند له معنى ما.

إن كتابا كاملا من ذكريات فرح قديم لا يقدر أن يحملني إلى لحظة من ذلك الفرح. ما الذي يبقى لي ساعتها؟ أن أسلِّم بذهابه وأن أكتب الفرح الجديد: إن شأن الذاكرة ليس حضور الماضي، وإنما إعادة حضوره، كأنما هو عرْض جديد.
ما أعجب شأن الذاكرة إذن: خزان راكد، كاسد، بركة لا يعلم قرارها ولا أسرارها أحد، تستجيب إذا خاطبتها، وتفترُّ عن مخبّآت لا يتوقعها أحد، كأنما هي الأرض تخرج أثقالها، فتتزين لك حكايةَ آنِك، وروايةَ زمانِك. وإنها لبنت سبعين لونا ولونا، تصالح بها بعض نفسك، وتستمدّ منها عروقا تظنها ضاربة في العمق فإذا هي على السطح يكاد يخفيها الغبار، وتنسج لك قصة تحملك في كل يوم قليلا ثم ينضب معينها فتعاود القص، وتعاود هي النضوب، وتعاود أنت المتح من الأعماق.
نتّصل بها في ضمائرنا الفردية، في عمق انطوائنا الذّاتي، وننسِج منها خيوط مرافَقة متواتِرة لأنفسنا تمكِّننا في كل مرة من أن يقول كل واحد منا: «هذا أنا-نفسي». ربما أمكننا على قدر معاودة ذلك التواصل أن نكوّن فكرة عن معنى ذلك «الأنا-نفسي»، أقولُ عن «معنى» ذلك الأنا نفسي، لا عن حقيقته. المعنى يقع في جهة العبرة العامّة، هو شيء كالإشارة العامّة إلى الجهة، كالالتفات الذي يجعلك في كلّ مرة مطمئنا إلى أنك لم تته عن نفسك، من دون أن تركز على تفاصيلها، من دون أن تحوّل المعنى إلى هوَس، إلى مرجعية تركز عليها، أو إلى نقطة ثابتة. ليس المعنى مضمونا محدَّد الملامح، ليس فيه إلا الملامح، والخطاطةُ العريضة.

لنفترض الآن أننا نحوّل حدث الذاكرة من جهة المعنى إلى جهة النقطة الثابتة، وأننا لم نعد نلتفت إلى الجهة وإنما أصبحنا نركز (في معنى الـ concentration ) على نقطة من تلك الجهة. ما يحدث ساعتها هو نوع من تكثُّف الذاكرة، من فيضان الذاكرة، هذا الذي يسمّيه ريكور: le trop de mémoire، شطط التذكر، تطرّف الذّاكرة، تشبُّثها بحدثها لا كجهة وإنما كنقطة ثابتة من الجهة: فكأنما حالُنا في هذا الوضع أنّنا إما بذلك الحدث نكون، أو أننا لا نكون البتة. مثل هذا الموقف هو المقابل المباشر للنسيان، أعني لشطط «اللاذاكرة». فكأنما تعوّض الذاكرة عن مفقودها بتحويله إلى حقيقة، هي ليست فقط حقيقةً حدثتْ، ولكنها حدثت كما تُصوِّره الذاكرة.

من شأن الذاكرة أنّها تقصُّ علينا الماضي .. وهي إذ تقصّه تخفّف منه، لأنها أوّلا تعلم أنه لم يعد هو ذلك الماضي بقدر ما هو صورة منه لا تستجيب له بقدر ما تستجيب لوجدانها الحاضر. هي تعيد فقط سرده على النفس، وتستصلح للنفس موقعا ضمن تلك السّردية.
من يبني من؟ إمّا أن تكون السردية هي التي تبني النفس : وهي في ذلك تسلّم بأنها غادرت الحداد على الماضي وانتقلت إلى رواية له. وإما أنّ الماضي الذي لم تطأه أيّةُ سردية هو الذي يبني النفس وساعتها لا تغادر الحداد على فواته بل تفجّر كل شيء من أجل أن يظل حاضرا رغم الزمان.
من أنا إذن؟ إما أنيي روايةٌ، ذكرى، أقصُّها على نفسي وقد تأكّدتُ من أنها في كلّ الأحوال ليست هي الماضي الذي يعطيني هويَّتي وإنما الهويةُ التي تبنيها روايتي، وإما أنني «دراما» تمتلئ حدّ الفيضان بهوية تلقّيتُها ولا سلطان لي عليها.
سيكبُر ذلك الصبي وسيظل يكبر حتى يتعلّم أن ينظر إلى المرآة ليصلح من مظهره أمام نفسه وأمام الناس، سيدرك أن نفسه ليست معطاة من الماضي، وإنما هي صورة نصحّحها كل يوم بعد أن فات الماضي ولم يعد في الوسع غير الذكريات.

المشاركة في هذا المقال