Print this page

الديقراطية: بين اﻟﺸﻜــــــﻞ واﻟﻤﻀﻤﻮن

1 - تغيير اﻟﻨﻈﺎم السياسي ﺑﻤﻔهﻮﻣﮫ اﻟﺸﺎﻣﻞ ليس ﺑﺎﻷﻣﺮ الهين وﻗﺪ يتطلب ﻣﺮﺣﻠﺔ انتقالية تدوم ﺳﻨﻮات يعاد فيها ﺗﺼﻮر

هيكلة ﻣﺆﺳﺴﺎت اﻟﺪوﻟﺔ وسياساتها الداخلية والخارجية وتحديد دور اﻟهيئات اﻟﻮسيطة واﻟﻨﻘﺎﺑﺎت وﻣﺆﺳﺴﺎت المجتمع المدني.
ﻟﻜﻦ يبقى اﻷهﻢ هﻮ تأسيس ﺛﻘﺎﻓﺔ مغايرة ﺗﻨﺴﺠﻢ ﻣﻊ اﻟﺘﺼﻮر الجديد . وﻣﺎ يحدث اليوم ﻓﻲ ﺗﻮﻧﺲ هﻮ رﻏﺒﺔ صريحة ﻓﻲ اﻻﻧﺘﻘﺎل السياسي الوطني.
2 - هذا الأﻣﺮ ﻓﻲ ظاهره طبيعي لأن أﺷﻜﺎل اﻷﻧﻈﻤﺔ الديمقراطية ﻣﺘﻨﻮﻋﺔ وﻣﺘﻌﺪدة.
ويمكن أن ﻧﺬﻛﺮ ﻓﻲ هذا اﻟﻤﺠﺎل الديمقراطية المباشرة والديمقارطية الشعبية والديمقراطية الشعبوية والديمقراطية التشاركية والديمقراطية التمثيلية .... وﻛﻞ ديمقراطية لها مرجعيات فكرية وإيديولوجية ﺧﺎﺻﺔ بها وﻻ يمكن تحديد ﻣﻌﺎﻟﻢ هذه الديمقراطيات دون اﻟﺘﻄﺮق إلى مضامينها. وكلها تبقى ﺷكلية ﻣﺎ ﻟﻢ ﺗﻌﻠﻦ ﻋﻦ مضامينها السياسية والجيوسياسية واﻻجتماعية. والاقتصادية والثقافية وﻟﺬا ﻓﺈن أهمية اﻟﻤﻨﻈﻮﻣﺔ الديمقراطية ﻻ ﺗﻜﻤﻦ ﻓﻲ شكلها ﻓﻘﻂ ﺑﻞ ﻓﻲ ﻣﻀﺎﻣينها وﺗﺼﻮرها ﻟﻠﻤﺸﺮوع الاجتماعي.
وﻓﻲ هذا اﻹطﺎر ﻓﺈن الديمقراطية اﻟﻤﻘﺘﺮﺣﺔ ﻣﻦ ﻗﺒﻞ الرئيس قيس سعيد ، ومسانديه هي أﻗﺮب إﻟﻰ الديمقراطية اﻟﻤﺒﺎﺷﺮة. إﻻ أن هذه الديمقراطية ﺗﺨﻀﻊ إلى مقاييس أﻛﺜﺮ دﻗﺔ ﻣﻦ الناحية اﻟتنظيمية، اﻟﻔﻜﺮية و اﻟﻤﺮﺟﻌية اﻟسياسية .
وإلى ﺣﺪ اﻟﺴﺎﻋﺔ يبقى ﻣﺸﺮوع أﺻﺤﺎب هذا اﻟﺘﻮجه هيكلا دون ﻣﻀﻤﻮن ﺑﻤﺎ أنهم ﻟﻢ يعلنوا ﻋﻦ ﺑﺮﻧﺎﻣﺞ يعكس اﻟﻌﻤﻖ اﻷيديولوجي واﻟﺴياسي لهذا اﻟخيار.
وهذا ﻣﺎ يجعلنا ﻧﺸﻌﺮ أن ﻣﺸﺮوع ﺑﻨﺎء ديمقارطية قاعدية ﻻزال دون ﻣﻀﻤﻮن ﺗﻨموي اﺟﺘﻤﺎعي وﺛﻘﺎفي. وﻣﻦ اﻟﻤﺆﻛﺪ أن ﻣﻦ ﻣﺨﺎطﺮ الديمقارطية اﻟﻘﺎﻋﺪية أنها ﻏﺎﻟﺒﺎ ﻻ تتبنى ﻣﻀﻤﻮن ﺗﻨﻤﻮي اﺟﺘﻤﺎعي واﺿﺢ اﻟﻤﻌﺎﻟﻢ. ومهما ﺗﻨﻮﻋﺖ أﺷﻜﺎل هذه الديمقراطيات ﻓﺈنه ﻣﻦ اﻟﻀﺮوري ﺗﻮﻓﺮ ﺳﻠﻄﺔ ﻧﻘﺪية ﻣﻀﺎدة ﻓﺎﻋﻠﺔ وﻣﻌﺘﺮف بهذا ﺣتى ﻻ ﺗﻔﻘﺪ الديمقراطية معناها ومفهومها اﻟسياسي.
وﻻ يكفي اﻹﻋﻼن عن أن الديمقراطية اﻟﻘﺎﻋدية هي ﻣﻨﻈﻮﻣﺔ ﻓﻲ ﺧﺪﻣﺔ ﻣﺼﺎﻟﺢ اﻟﺸﻌﺐ وإرادته ﻷن هذا اﻟﺸﻌﺎر يمكن أن ﺗﻨﺎدي به اﻧﻈﻤﺔ سياسية مغايرة ﺗﺨفي ﺻﺮاع اﻟﻄﺒﻘﺎت. وهذا ﻣﺎ يجلعنا ﻧﺘﺴﺎءل ﺣﻮل ﻣﺎ إذا ﻛﺎﻧﺖ الديمقرطية غاية ﻓﻲ ﺣﺪ ذاتها؟
ﻛﻤﺎ ﻧﺘﺴﺎءل كذلك ﻋﻦ اﻷﺳﺒﺎب الحقيقية وراء انهيار ﻣﻨﻈﻮﻣﺔ الديمقراطية التمثيلية ﻓﻲ ﺗﻮﻧﺲ؟ أﺣﺰاب ﺑﺎﻋﺘﺒﺎر اﻟﺪيمقراطية بمفهوم دراية ليست تلك اﻟﺘﻲ وظفتها اﻻﺣﺰاب هل لانها ﺗﻔﺘﻘﺮ ﻟﻤﺮجعيات سياسية واﺟﺘﻤﺎعية وﻟﻢ ﺗﻌﻤﻞ ﻋﻠﻰ ﻣﺮاﺟﻌﺔ جذورها اﻻديولوجية ؟ واﻟﻤﻌﻠﻮم ان هذه اﻻﺣﺰاب ﻟﻢ ﺗﻌﻤﻞ أﺑﺪا ﻋﻠﻰ ﻧﺸﺮ اﻟﺜﻘﺎﻓﺔ الديمقراطية ﺧﻼل اﻟﻌﺸﺮية (ﻟﻢ ﺗﻨﻈﻢ وزارة اﻟﺜﻘﺎﻓﺔ ﻧﺪوة واﺣﺪة ﻟﻠﺘﻌﺮيف ﺑﺎﻟﺜﻘﺎﻓﺔ الديمقراطية) وهذا ﻣﺎ ﺟﻌﻞ ﺗﻮﻧﺲ ﺗﻤﺮ ﺑﻌﺸﺮ ﺳﻨﻮات ﻣﻦ ديمقراطية تمثلية ﺟﻮﻓﺎء ﻋﺒﺮ اﻋﺘﻤﺎد اﻟﻠيبرالية اﻟﻤﻄﻠﻘﺔ دون اﻟتفكير ﻓﻲ ﺑﻨﺎء اﻗﺘﺼﺎد ﺗﻀﺎمني اﺟﺘﻤﺎعي وﺳياﺳﺔ ﺛﻘﺎفية ﺷﺎﻣﻠﺔ ﻟﻠﺮقي ﺑﻜﺎﻓﺔ ﻓﺌﺎت اﻟﻤﺠﺘﻤﻊ التونسي .
3 - أﻣﺎ ﻣﻦ اﻟﻨﺎحية اﻟﺘﺎريخية ﻓﺈن اﻟﺪيمقراطية اﻟﻤﺒﺎﺷﺮة ﻣﻦ أﻗﺪم اﻟﻨﻈﻢ اﻟسياسية وﺗﺮﺟﻊ إلى أﺛينا وﻧﻼﺣﻆ ﻏﺎﻟﺒﺎ أنها ﺗﺤﻤﻞ ﻣﻀﻤﻮﻧﺎ ﻟﮫ ﻋﻼﻗﺔ ﺑﺎﻟﻔﻜﺮ اﻟﺘﻌﺎوني واﻻﻗﺘﺼﺎد اﻟﺘﻀﺎﻣني.
ويمكن ان ﻧﻌﺘﺒﺮ ان اﻟﺤﺮﻛﺔ اﻻجتماعية النقابية ﻓﻲ ﺗﻮﻧﺲ كانت أول وآﺧﺮ ﻣﻦ ﻧﺎدى لتأسيس ﻓﻜﺮ ﺗﻌﺎوﻧﻲ وبداية ﻣﻦ تأسيس اﻟﺤﺮﻛﺔ النقابية ﺳﻨﺔ 1924 وﺗﺄﻛﺪ هذا اﻻﺗﺠﺎه ﻓﻲ اﻟﻤﺆﺗﻤﺮ اﻟﻮطﻨﻲ اﻟﺮاﺑﻊ ﺳﻨﺔ 1951 وأﺻﺒﺢ اﻟﺘﻮجه اﻟﺘﻀﺎمني ﻣﻦ اﺣﺪى ﻣﺒﺎدئ اﻻﺗﺤﺎد اﻟﻌﺎم اﻟﺘﻮﻧﺴﻲ ﻟﻠﺸﻐﻞ اﻟﺜﺎﺑﺘﺔ . وﻛﻤﺜﺎل ﻋﻠﻰ ذﻟﻚ ﻧﺬﻛﺮ تأسيس اﻟﺘﻌﺎﺿﺪيات اﻟﻌﻤﺎلية واﻟﺼﻨﺎيعية وﺻﻐﺎر اﻟﺘﺠﺎر واﻟﻨﻘﻞ .
إﻟﻰ ﺟﺎﻧﺐ ذﻟﻚ ﺑﺎدر اﻻﺗﺤﺎد بتأسيس ﺑﻨﻚ اﻟﺸﻌﺐ ﺳﻨﺔ .1963 لكن ﺗﻢ اﻻستيلاء ﻋﻠﻰ ﻛﻞ هذه المؤسسة التضامنية ﻣﻦ طﺮف اﻟﺤﺰب اﻻﺷﺘﺮاكي اﻟﺤﺎﻛﻢ آﻧﺬاك: اﻟﺤﺰب اﻟﺪﺳﺘﻮري. وﺑﻌﺪ ذﻟﻚ أﺳﺲ هذا اﻟﺤﺰب لبروقراطية ﻋﻠﻰ جميع المستويات ﻣﻦ ﺧﻼل إﻗﻨﺎع اﻟﺸﻌﺐ ﺑﺄن الاشتراكية اﻟﺪﺳﺘﻮرية أﻓﻀﻞ ﻧﻈﺎم لحماية ﻣﺼﺎﻟﺢ اﻟﺸﻌﺐ التونسي وسيادة اﻟﻮطﻦ وﻋﻠﻰ ﻛﻞ اﻟﻤﻨﻈﻤﺎت الوطنية واﻟﻨﻘﺎﺑﺎت ان ﺗﻨﻈﻢ إلى هذا اﻟﺤﺰب ) ﺑﻌﺪ تحجير ﻧﺸﺎط ﻛﻞ الأحزاب أو تأسيس أي أحزاب جديدة)
وأﻛﺪ اﻟﻨﻈﺎم السياسي آﻧﺬاك أن الاشتراكية الدستورية ﺗﻌﺘﻤﺪ على ﻧﻈﺎم اﻟﺘﻔﺎﻋﻞ اﻟﻤﺒﺎﺷﺮ ﻣﻊ اﻟﻤﻮاطﻦ دون أي وﺳﺎطﺔ وذﻟﻚ ﻣﻦ ﺧﻼل تأسيس اﻟﺸﻌﺐ المهنية واﻟﺸﻌﺐ الترابية باعتبارها اﻟﻘﻮاﻋﺪ الشعبية لتطبيق سياسة اﻟﺤﺰب اﻟﻮاﺣﺪ. وطﻠﺒﺖ اﻟﺴﻠﻄﺔ آﻧﺬاك ﻣﻦ اﻟﻤﻨﻈﻤﺎت الوطنية والهيئات الوسطية أن ﺗﻨﻈﻢ ﺑﺼﻔﺔ إجبارية إلى اﻟﺤﺰب الاشتراكي اﻟﺪﺳﺘﻮري (ﻣﻤﺜﻞ الوحيد اﻟﺸﻌﺐ اﻟﺘﻮﻧﺴﻲ( إﻻ أن هذه اﻟﺘﺠﺮﺑﺔ انتهت ﺑﻨﺸﺄة ﺣﺰب واﺣﺪ يجمع اﻟﺴﻠﻂ يقرر ويخطط وينفذ ﻣﺎ يعتبره ﻓﻲ ﺻﺎﻟﺢ اﻟﺸﻌﺐ وتعبيرا ﻟﺮﻏﺒﺘﮫ.
4 - وتكمن أهمية التاريخ في كيفية اﺳﺘﺨﻼص اﻟﺪروس ﻣﻤﺎ ﺳﺒﻖ واﻟﺘﺜﺒﺖ ﻣﻦ المرجعيات الفكرية والسياسية ﻋﻨﺪ تطبيقها ﻟﺘﻔﺎدي اﻻﺧﻄﺎء اﻟﺘﻲ أدت إﻟﻰ انهيار اﻟﻤﻨﻈﻮﻣﺔ السياسية والاقتصادية ﻓﻲ اﻟﻤﺎضي.
وﻓﻲ اﻟﻤﻘﺎﺑﻞ ﻧﻌﺘﻘﺪ أن ﺗﺄسيس ﻛﻞ ﻣﺸﺮوع سياسي مهما ﻛﺎن ﻧﻮﻋﮫ ﻻﺑﺪ أن ينطلق ﻣﻦ ﺗﺤﺪيد اﻟﻤﻀﻤﻮن ﺛﻢ اﻟﻰ ﺿﺒﻂ الهيكلة اﻟﺘﻲ ﺗﺘﻤﺎشى ﻣﻊ هذا اﻟﻤﻀﻤﻮن. واﻣﻞ ان يكون اﻟﺤﻮار ﻣﻊ اﻟﺸﺒﺎب وغير اﻟﺸﺒﺎب ﺣﻮل ﻣﻀﻤﻮن اﻟﻤﻨﻮال اﻻﻗﺘﺼﺎدي واﻻﺟﺘﻤﺎعي واﻟﺜﻘﺎﻓﻲ ﻣﻦ بين اﻷوﻟﻮيات.
ويجب اﻟﺘﺬكير ﻓﻲ النهاية أﻧﮫ مهما ﻛﺎن ﺷﻜﻞ وﻣﻀﻤﻮن اﻟﺪيمقراطية اﻟﺘﻲ ﺳﺘﻌﺘﻤﺪ ﻓﺈﻧه ﻻ ﻣﺠﺎل ﻟﻠﺘﻘﺸﻒ ﻓﻲ اﻟﺤﺮيات أو نفيها وﻻ يمكن التخلي ﻋﻠﻰ ﻣﺒﺎدئ ﺣﻘﻮق اﻹﻧﺴﺎن وحرية اﻟﻔﻜﺮ واﻟتعبير واﻟضمير حتى ﻻ يعيد التاريخ نفسه.

المشاركة في هذا المقال