Print this page

قهوة الأحد: المأزق التاريخي للمشاركة المواطنية: أزمة الديمقراطية التمثيلية وبعض مآلات الديمقراطية المباشرة

يمر العالم اليوم بمرحلة مخاض كبرى على عديد المستويات .فنحن نعيش جملة من التحولات والتطورات العميقة التي حكمت على عالم الأمس والإطار العام لتنظيم المشترك

بالتراجع والأفول .ولعل احد أهم المجالات التي بدأت تشهد تراجعات وأزمات عميقة المجال السياسي في المجتمعات الحديثة .
فقد شكل النظام الديمقراطي أفق التجربة السياسية في المجتمعات المعاصرة لعقود طويلة.ورغم المنافسة الكبيرة من عديد الأنظمة الأخرى كالأنظمة الشمولية طيلة القرن العشرين ، إلا أن النظام الديمقراطي نجح في أن يفرض نفسه كإطار شامل للممارسة السياسية .وكان سقوط جدار برلين سنة 1989 وانهيار الاتحاد السوفياتي والأنظمة الاشتراكية انتصارا كبير للمنظومة الديمقراطية على أهم نظام منافس لها وهو النظام الكلياني والشمولي الذي حاولت الأحزاب الشيوعية تطبيقه كبديل للديمقراطية الليبرالية.وقد ساهم هذا الانتصار في هيمنة المنظومة الديمقراطية.لتصبح الإطار العام للممارسة السياسية والمثال الذي ترنو كل بلدان العالم لتطبيقه .فعرفت اغلب بلدان وجهات العالم ثورات سياسية كبرى من اجل الخروج من الأنظمة الشمولية والاستبداد السياسي والدخول في الحداثة السياسية وثقافة التعدد والحرية والديمقراطية من بابها الكبير .وآخر هذه الثورات كانت التي عرفتها بلادنا والمنطقة العربية مع ثورات الربيع العربي وبدايات التحول الديمقراطي والدخول في تجربة سياسية جديدة .

وقد أخذت التجربة الديمقراطية خلال هذه المسيرة التاريخية شكلا معينا وهو الديمقراطية التمثيلية والتي تعتمد على مبدأ الانتخابات الديمقراطية والحرة ومبدإ التمثيلية.ففي هذا النظام تلعب الأجسام الوسطية من أحزاب ومنظمات ومجتمع مدني ونقابات دورا أساسيا في العملية السياسة .وتمكن الانتخابات من تعيين ممثلين للشعب وللجسم الانتخابي والذين يحددون الاختيارات الكبرى والسياسات العمومية للدولة خلال فترة ولا يتهم .

إلا انه وبعد فترة من النجاحات في ترسيخ أنظمة سياسية مستقرة ساهمت في تطور المبادئ الديمقراطية ومنظومة حقوق الإنسان، بدأت المنظومة الديمقراطية في التراجع والتآكل .فقد عرف المشروع الديمقراطي الكثير من النقد وحتى الرفض لعجزه وتراجع قدرته على التغيير الاجتماعي وتحقيق المطالب الاجتماعية وخاصة محاربة الفقر والتهميش الاجتماعي.كما ساهمت القطيعة بين النخب والأحزاب السياسية والناخبين في تدعيم أزمة النظام الديمقراطي وفتحت الباب على مصراعيه لنمو وصعود الحركات الشعبوية .
وقد انعكست أزمة المشروع الديمقراطي على النظام التمثيلي والذي اختزل التجربة الديمقراطية لعقود طويلة.

خيمت أزمة المشروع الديمقراطي والنظام التمثلي بظلالها على مجتمعاتنا اليوم لندخل في مأزق تاريخي حول مستقبل النظام السياسي ومسارات حول هذه القضايا في أولى اهتمامات الفاعلين السياسيين والمفكرين والناشطين السياسيين والنقاش العام حول مستقبل الديمقراطية في العالم .فهل هناك مجال للخروج من أزمة الديمقراطية وإعادة بنائها على أسس جديدة ؟ وهل يمكن ترميم النظام التمثيلي لإعادة بناء علاقة الثقة بين الجسم الانتخابي وممثليه من النخب السياسية والتي تمارس السلطة بتفويض منه ؟ ولعل السؤال الأهم يهم البدائل الممكنة لتجاوز أزمة النظام الديمقراطي وبصفة خاصة هل يمكن للديمقراطية المباشرة أن تشكل بديلا واقعيا لازمة الديمقراطية التمثلية؟

• في انحرافات الديمقراطية التمثيلية
بعد عقود من النجاحات والهيمنة على النظام السياسي في العالم دخلت المنظومة الديمقراطية في أزمة حادة في السنوات الأخيرة مما ساهم في تراجع ثقة الناس في الأحزاب السياسية وفي الديمقراطية التمثيلية .
ويمكن تفسير هذه الأزمة بثلاثة أسباب أساسية .السبب الأول يهم عجز وتراجع قدرة المنظومة الديمقراطية على تغيير الواقع المعاش نحو الأفضل .فقد شهدت السنوات الأخيرة تنامي التفاوت الاجتماعي والتهميش دون أن تكون السياسات العمومية قادرة على إيجاد الإجابات الضرورية لفتح آفاق جديدة للعقد الاجتماعي في المجتمعات الحديثة .وأصبحت المسألة الاجتماعية في قلب الحركة الاجتماعية مع تصاعد الحركات الاجتماعية والاحتجاجية المطالبة بتحسين الوضع الاجتماعي .

ويعود عجز السياسات العمومية إلى عديد الأسباب ومن ضمنها تصاعد العولمة والتأثير الكبير للشركات الكبرى وللمؤسسات المالية العالمية في الاختيارات الاقتصادية الوطنية مما أفقدها الكثير من فعاليتها .وقد ساهم قصور السياسات الوطنية في تحسين الأوضاع الاجتماعية وفتح آفاق جديدة للمشترك الجمعي في التراجع الكبير للمنظومة الديمقراطية وتعميق أزمتها.
كما يمكن أن نفسر الأزمة التي يعيشها النظام الديمقراطي بالقطيعة الكبيرة بين النخب السياسية والشعب .وقد ساهم النظام التمثيلي إلى حد كبير في هذه القطيعة لغياب المحاسبة وغياب قاعدة واضحة وشفافة في العودة للناخبين واحترام إرادتهم وأولوياتهم.وقد لعبت هذه القضايا والصعوبات دورا كبيرا في تراجع ثقة الناخبين وتوسيع الهوة مع النخب في جميع الميادين.
إلى جانب هذه السببين المهمين في فهم أزمة النظام الديمقراطي يمكن لنا إضافة سبب ثالث وأساسي وهو استشراء الفساد واللوبيات في النظام السياسي مما ساهم بطريقة كبيرة في تراجع مخزون الثقة في النخب وفي المنظومة الديمقراطية في اغلب بلدان العالم ومن ضمنها ديمقراطيتنا الناشئة .
وقد دخل النظام الديمقراطي في أزمة خانقة منذ سنوات وتعالت الأصوات المطالبة بتغييره وبناء ديمقراطية جديدة قادرة على إعطاء دفع جدي للمشاركة المواطنية والأخذ بعين الاعتبار مصالح وإرادة الجسم الانتخابي والشعوب بشكل أوسع .وفي إطار هذا البحث المتواصل عن تجربة سياسية جديدة ظهر مشروع الديمقراطية المباشرة والذي تدافع عليه مشروع العديد من القوى السياسية والناشطين السياسيين للخروج من هذه الأزمة .والسؤال الذي يطرح نفسه هو هل يمكن لهذا المشروع الطوباوي في الكثير من الأوجه أن يشكل اليوم بعد الكثير من المراجعات التي عرفها بديلا واقعيا وجديا للديمقراطية التمثلية ؟ .

• هل أن البديل في الديمقراطية المباشرة ؟
تسعى الديمقراطية المباشرة إلى تمكين الشعب من ممارسة السلطة وتحديد وتطبيق سياسات دون المرور بأجسام ومؤسسات وسيطة وبصفة خاصة دون انتخاب ممثلين عنه ومجالس تناقش نيابة عنه التصورات الكبرى للبلاد .
وتعود تجارب الديمقراطية المباشرة تاريخيا إلى ديمقراطية أثينا في القرن السادس قبل المسيح .وقد اعتبر المؤرخون أن النظام السياسي السائد في تلك الفترة من أولى التجارب الديمقراطية في العالم .إذ يتساوى المواطنون في هذه الديمقراطية ويمكنهم المشاركة بصفة مباشرة في إدارة الوضع السياسي والاقتصادي من خلال المجالس المفتوحة في قلب المدينة (les agoras).وتعطي هذه الديمقراطية المباشرة الفرصة لكل المواطنين للمشاركة في أعمال المجالس وإبداء آرائهم وأفكارهم .كما تفسح هذه التجربة الفرصة لكل المواطنين للترشح لرئاسة المدينة والإشراف على تطبيق أراء المواطنين واختياراتهم .
وقد كان لهذه التجربة الطوباوية في التنظيم السياسي والمشروع الديمقراطي تأثير كبير على المستوى الفكري حيث اهتم به عديد المفكرين مثل الفرنسي صاحب العقد الاجتماعي جان جاك روسو(jean jacques Rousseau) والفيلسوف ذو الأصول اليونانية كورنيليوس كاستورياد (Cornélius costoriadis) والفيلسوفة الألمانية حنا اراندت (Hannah Arendt) .

ولم يقف تأثير هذا المشروع عند المستوى الفكري بل كان له تأثير على مستوى الممارسة الديمقراطية .وقد عرفت الثورة الفرنسية سنة 1789 ظهور تجربة الديمقراطية المباشرة على مستوى كبير حيث قام المواطنون بتنظيم أنفسهم في لجان على مستوى الأحياء امتدت على مستوى المدن الكبرى في باريس وفي اغلب المدن الكبرى .وقد اتبعت هذه التجارب المبادئ التي ترتكز عليها الديمقراطية المباشرة كالاجتماعات التشاورية المباشرة التي يشارك فيها كل المواطنين .

ورغم الصعوبات التي عرفتها الديمقراطية المباشرة ، إلا إن بريقها لم يخفت مع التاريخ بل تواصل تأثيرها إلى حدّ اليوم .فعديد البلدان تطبق اليوم بعض مبادئ الديمقراطية المباشرة كالاستفتاء والمبادرات المواطنية مثل الكنفدرالية السويسرية وعديد الولايات الأمريكية مثل ولاية فرمونت (Vermont) وفي انقلترا الجديدة (Nouvelle Angleterre).
وترتكز الديمقراطية المباشرة في محاولتها على تدعيم وترسيخ المشاركة المواطنية على أشكال متعددة من الديمقراطية المباشرة .

الشكل الأول من أشكال الديمقراطية المباشرة هو المبادرة المواطنية أو الشعبية والعرائض.هذا الشكل من المشاركة للمواطنين يمكن المواطنين من تقديم مشاريع قوانين او حتى تغيير دستوري ويقع عرضها على عموم المواطنين للتصويت عليها .
كما يمكن اللجوء إلى نفس الطريقة لسحب الثقة من مسؤول كبير أو من منتخب من قبل ناخبيه عند قناعاتهم انه لا يمثل مصالحهم في البرلمان .ولعل من أهم التجارب المعروفة في هذا المجال سحب الثقة من الوالي قاري دافيس (le gouverneur Gary davis) عن ولاية كاليفورنيا سنة 2003.

وتعمل عديد الدول بهذا من اجل تعميق المشاركة المواطنية في الحياة الديمقراطية مثل سويسرا وولاية كاليفورنيا .إلا أن تنظيم هذه المبادرات يخضع لشروط دقيقة لتفادي تكرارها ولإعطائها الجدّية والنجاعة الضرورية في سير الحياة الديمقراطية .

الشكل الثاني الذي تنادي به الديمقراطية المباشرة هو الاستفتاء .إن آلية الاستفتاء موجودة في أغلب البلدان الديمقراطية .إلا أن ما يعيبه الكثيرون على ذلك أن الرجوع إلى هذه الآلية تحدده في أغلب الأحيان الحكومات والبرلمانات المنتخبة .فهي التي تحدد التوجه إلى هذه الآلية كما تقرر طبيعة الأسئلة المطروحة.وتبقى بالتالي هامش حركة المواطنين محدودا إن لم نقل غير موجود.
ويسعى عديد المدافعين عن الديمقراطية المباشرة الى تسهيل عملية اللجوء إلى آلية الاستفتاء وفتحتها للمواطنين حسب شروط معينة ودقيقة .

الشكل الثالث الذي تنادي بها الديمقراطية المباشرة هي الجلسات العامة المفتوحة على كل المستويات من المحلي إلى الوطني والتي تعطي الفرصة للمواطنين للنقاش حول القضايا الأساسية ثم اخذ القرارات الملزمة بصفة ديمقراطية .
الشكل الرابع هو عملية القرعة لاختيار ممثلي الشعب.وقد دافع اغلب مناصري الديمقراطية المباشرة عن هذا المبدإ لابتعاده عن الانتخابات وتدخل اللوبيات المالية وغيرها والتي تؤثر على نتائج الانتخابات.

وقد شكلت هذه الآلية الأداة الأساسية لاختيار ممثلي الشعب منذ ديمقراطية أثينا .لكن أشار الكثيرون من منتقدي الديمقراطية المباشرة الى أن هذه الآلية لم تعد ناجعة وغير قادرة على اختيار ممثلي الشعب باعتبار تعقيدات الحياة السياسة في المجتمعات الحديثة فقد أثبتت تجربة ايسلندا اثر الأزمة المالية العالمية لسنة 2009 نجاعتها .فقد تم اتباع هذه الآلية لاختيار المجلس التأسيسي الذي اعد الدستور والذي تمت الموافقة عنه بالأغلبية في استفتاء 2012.إلا أن الحكومات المختلفة تلكأت في تطبيقه ليقع التراجع عليه سنة 2013.

ورغم النقد الذي عرفته الديمقراطية المباشرة الا انه كان لها حضور هام وتأثير سياسي كبير حتى أنها كانت وراء بروز تيار سياسي كبير وهو التيار المجالسي والذي يتواصل تأثيره إلى يومنا هذا .ومن أهم مفكري ومنظري هذا التيار نجد انطون بنوكوك Anton Pannekoek وبول ماتيك (Paul Mattich) .وتبقى قائمة الجناح الراديكالي في الحزب الاشتراكي الألماني روزا لكسمبورغ ورفقيها كارل ليبناخت من أهم المدافعين عن المجالس العمالية والتي تم اتباعها في الثورة الألمانية ل1919 والتي انتهت بتصنيفها مع قادة هذا التحرك .

ويبقى السؤال قائما حول قدرة الديمقراطية المباشرة على تجاوز أعراض الديمقراطية التمثيلية وبناء مشاركة مواطنية وحقيقية في نظام الحكم وفي العمل السياسي .وبالأحرى هل أن هذه النظرة الطوباوية للعمل السياسي قادرة على بناء تجربة مشاركة حقيقة .

• في بعض مآلات الديمقراطية المباشرة
تتجاوز دراسة التجربة التاريخية للديمقراطية المباشرة لأخذ الدروس من انتصاراتها وكذلك انتكاساتها مجال هذا المقال .لكن من خلال دراسة التجربة التاريخية سأحاول الوقوف على بعض مآلات تجارب الديمقراطية المباشرة في التاريخ الحديث .
المآل الأول الذي سنقف حوله هو مآل الهزيمة والانكسار لبعض تجارب الديمقراطية المباشرة .وأولى هذه التجارب تجربة كومونة باريس commune de Paris سنة 1871.وقد قام ساكنو باريس بثورة جديدة ضد السلطة وأسسوا مجلسا شعبيا لحكم المدينة.وقد اقر هذا المجلس عديد القرارات الثورية ومن ضمنها المساواة في الأجر بين الرجال والنساء ومجانية التعليم ومجانية الأعمال التي يقوم بها العدول وغيرها من القرارات الهامة .

وكان لهذه التجربة تأثير كبير في التفكير السياسي حيث أشاد بها ماركس .كما تحولت عديد المدن الفرنسية الأخرى مثل ليون وبوردو للتنظم في مجالس تقود المدينة وتثور على السلطة القائمة .
إلا أن هذه التجربة انتهت بعد هجمة الجيش والنظام القائم والمجزرة الرهيبة ضد قادة الكومونة وسكان باريس والتي يذكرها التاريخ إلى يومنا هذا بكثير من الحزن والألم .
التجربة الثانية في هذا المجال والتي انتهت بهزيمة كبيرة للحركة الديمقراطية هي تجربة الثورة الألمانية والتي انطلقت بانتفاضات مدنية كيل (Kiel) والتي قادت إلى الثورة في نوفمبر 1918.وقد شكلت لجان عمالية في اغلب المدن الألمانية لتطالب بإيقاف الحرب وتغيير النظام .وقد نجحت هذه المجالس في فرض إبرام الصلح مع فرنسا ونهاية الحرب العالمية الأولى من الجانب

الألماني رغم الهزيمة .
إلا انه وبعد شهرين من هذه الانتفاضة وتنظيم الشعب في مجلس عمالية هاجم الجيش هذه المجالس بعنف وقوة لتنتهي هذه التجربة في حمام من الدم وقتل أهم قادتها ومن ضمنهم روزا ليكسمبورغ وكارل ليبنخت .
أثبتت هاتان التجربتان وبعض التجارب التاريخية الأخرى أن الهزيمة والانكسار هي إحدى المآلات الممكنة لتجارب الديمقراطية المباشرة.ولفهم أسباب هذه الانكسارات لابد من العودة إلى غياب الأجسام السياسية الوسطية من منظمات جماهيرية ومجتمع مدني وأحزاب سياسية. ذلك أن غياب وضعف هذه المنظمات شكل احد أسباب هذا التراجع باعتبار أن حركة المجتمع و الانتفاضات بقيت عفوية وفاقدة للأطر القادرة على تنظيمها وتوحيد صفوفها من اجل الوقوف أمام الارتدادات السياسية والاجتماعية .

أما المآل الثاني فقد لاحظناه في التاريخ المعاصر لبعض محاولات الديمقراطية المباشرة فهو تجربة سطوة حزب أو مجموعة على هذه الحركية الاجتماعية والسياسية .ويمكن أن ندرج في هذه الخانة تجربة السوفياتات (les soviets) في الثورة البلشفية .

ظهر السوفيات في روسيا لتنظيم الحركة العمالية والإضرابات في غياب المنظمات النقابية.وقد بدأت السوفيات في البروز في ثورة 1905 في مدينة سان باترزبورغ (saint Petersbourg) وعديد المدن الأخرى .ورغم قمع هذه الانتفاضة وهزيمتها على أيادي الجيوش القيصرية بقيت فكرة للسوفيات حية .وتكونت من جديد مع الثورة بداية من شهر فيفري 1917.وفي تلك الفترة ولمحاربة الحكومة المؤقتة التي يقودها كيرنسكي أطلق لينين شعاره الشهير « إعطاء كل السلطة للسوفيات» وقد دخلت عناصر الحزب الاشتراكي أو البلشفيك لكل السوفيات وليسيطروا عليها وليتم إقصاء العناصر العمالية التي قادت الثورة .

ولئن اعتبرت كل مؤسسات الدولة نفسها امتدادا لسوفياتات ثورة 1917 فقد فقدت كل عناصرها التي قادت الثورة العمالية وفقدت استقلاليتها عن الحزب الشيوعي الذي سطا على مؤسسات أحد أهم تجارب الديمقراطية المباشرة .وكانت عملية السطو نقطة انطلاق لهيمنة الحزب الشيوعي ولعملية استبداد سياسي لم نعرف لها مثيلا في التاريخ وليصبح القولاق(Goulag) ومخيمات الموت في سيبيريا مصير كل المعارضين والمطالبين بالديمقراطية من مثقفين وناشطين سياسيين وفنانين .

وقد وصلت حدة الاستبداد إلى درجة أن الثورة بدأت في تصفية قادتها وكل أبنائها مثل ليون تروتكسي قائد الجيش الأحمر والذي اقتفت أثره المخابرات الستالينية ليقع اغتياله في المكسيك .

في النهاية تشير كل هذه الأمثلة إلى هشاشة تجارب الديمقراطية المباشرة على مر التاريخ .فبرغم حسن النوايا وقناعتها بضرورة توسيع المشاركة الشعبية ارتطم مشروعها الطوباوي بالواقع المعقد والصعب لتنتهي في أغلب الأحيان إلى هزائم وانكسارات مسارات إعادة بناء الديمقراطية .
تعيش التجربة والمشروع الديمقراطي منذ سنوات عديدة مأزقا تاريخيا وأزمة لم تعرفها في السابق.وقد عرفت محاولات إعادة بناء المشروع الديمقراطي صعوبات كبيرة وعجزت اغلب القوى السياسية والمفكرين عن نفخ روح جديدة في قلب المشروع الديمقراطي وفي رأيي فإن هذا العجز الفكري والسياسي لضخ دماء جديدة في المشروع الديمقراطي نتيجة حتمية للفرضيات المنهجية التي تقت على أساسها محاولات التشييد وإعادة البناء .

وفي رأيي قامت هذه الفرضية على أساس التعارض بين الديمقراطية التمثلية
والديمقراطية المباشرة .وهذا التعارض في رأيي ليس وليد اللحظة بل طبع وهمين على الفكر والعمل السياسي من عصر الأنوار والثورات وفي نهاية القرن الثامن عشر.فالديمقراطية التمثيلية شكلت جوهر المشروع الليبرالي بينما كانت الديمقراطية المباشرة يافطة كل المشاريع الراديكالية .إلا أن عملية إعادة البناء اصطدمت بانحرافات الديمقراطية التمثلية من جهة وهشاشة تجارب الديمقراطية المباشرة من جهة ثانية لتتواصل أزمة المشروع الديمقراطي وتتحول إلى مأزق تاريخي .

ويبقى السؤال قائما : كيف يمكن لنا الخروج من هذه الأزمة وضخ دماء جديدة في المشروع الديمقراطي ؟ في رأيي تكون الإجابة عن هذا السؤال أن عملية إعادة البناء يجب أن تقطع مع فرضية التعارض والتعدد بين مشروعي الديمقراطية التمثلية والديمقراطية المباشرة .ويجب أن يتحول تفكيرنا إلى سؤال حول أهم الطرق والوسائل لتعميق الممارسة المواطنية في العملية السياسية ومراقبة المسار السياسي لحمايته من الانحرافات ومن تأثير اللوبيات .

وفي رأيي فإن المجال لا يسمح في هذه المساهمة بإعطاء إجابة حول هذا السؤال الأساسي للخروج من المأزق التاريخي الذي يتخبط فيه المشروع الديمقراطي إلا انه يمكن لنا الإشارة إلى الفرضية التي يمكن أن نبني عليها هذه الإجابة وعملية إعادة البناء وهي تجاوز التعارض والتضاد بين المشروعين والتصورين للديمقراطية .نحن اليوم بحاجة إلى مشروع ديمقراطي جديد يعتمد على مبدأين أساسيين ومتلازمين : التمثيلية من جهة وتوسيع المبادرات المواطنية للمشاركة والمراقبة .

تعيش بلادنا اليوم ككل بلدان العالم أزمة سياسية عميقة .وتتجاوز هذه الأزمة العمل السياسي اليوم لترف بظلالها على المشروع الديمقراطي الذي دخل مأزقا تاريخيا عميقا.والخروج من هذا المأزق والى جانب الإصلاحات الآنية يتطلب بناء فلسفة جديدة للمشروع الديمقراطي ترتكز على التمثلية وتوسيع المشاركة والمراقبة المواطنية والشعبية .

المشاركة في هذا المقال