Print this page

الصراع بين الأغلبية البرلمانية و مؤسسة الرئاسة: أخطار محدقة بالديمقراطية التونسية بقلم: عبد المجيد المسلمي

لقد أفرزت انتخابات 2019 رئيسا للجمهورية السيد قيس سعيد الذي لا ينتمي لأي حزب سياسي. كما أفرزت حزبا

سياسيا فائزا بالإنتخابات البرلمانية ممثلا بحركة النهضة و التي نسجت تحالفا برلمانيا مع قلب تونس الحزب الثاني في البرلمان و تمكنت من تشكيل حكومة السيد هشام المشيشي. هذه الحالة السياسية أطلق عليها الفرنسيون «التعايش» la cohabitation بين رئيس دولة من حزب و رئيس حكومة من حزب منافس. و كان ذلك في ثلاثة حقب سياسية بين فرنسوا ميتران و جاك شيراك (1986) ثم بين فرنسوا ميتران و أدوارد بلادير(1993) ثم بين جاك شيراك و ليونال جوسبان (1997). و قد قام الفرنسيون بجملة من التعديلات الدستورية والإنتخابية سنة 2002 لتوفير أفضل الظروف لتفادي هده الوضعية السياسية المعقدة. أما في تونس فيبدو أن هذه الثنائية ليست لا توافقا و لا تعايشا بل تحولت إلى صراع محموم بين المؤسسة الرئاسية و الأغلبية البرلمانية مما أصبح يهدد بعرقلة و شل أعمال الدولة و تهديد الديمقراطية التونسية.
مؤسسة الرئاسة : محرك للديمقراطية أم معطل؟؟؟
لقد انتظر مئات الآلاف من الناخبين الذي صوتوا للرئيس قيس سعيد أن يسعى إلى استحثاث العمل الحكومي و دفعه نحو الأفضل خاصة في ظروف الأزمة الصحية و الإقتصادية الخطيرة التي تعيشها بلادنا منذ أكثر من سنة. و لكن للأسف لاحظ الرأي العام غياب التعاون وصولا إلى القطيعة بين مؤسسة الرئاسة و حكومة السيد هشام المشيشي و رفض أداء اليمين للوزراء الذين صوت عليهم البرلمان مما جعل الحكومة تعمل بتركيبة جد منقوصة مما يؤثر سلبا على أدائها في معالجة المشاغل الخطيرة التي يعاني منها التونسيون.
من جهة أخرى كان ناخبوا الرئيس قيس سعيد ينتظرون منه باعتباره حاميا للدستور أن يسعى بعزيمة و تصميم لإستكمال بناء المؤسسات الدستورية للجمهورية الثانية خلال هذه العهدة الانتخابية مثل المحكمة الدستورية و هيئة التنمية المستديمة و المجالس الجهوية. إلا أن جزءا كبيرا من ناخبيه صدموا برفضه ختم مشروع قانون المحكمة الدستورية ( و هي ابرز مؤسسات الجمهورية) مما يوحي بان إرساءها سوف يكون صعب المنال.
كما لاحظ الرأي العام انزياحا نحو توسيع سلطات مؤسسة الرئاسة سواء عند محاولة تعيين وزراء موالين أو طرح أهلية الرئاسة لقيادة قوات الأمن الداخلي في مخالفة صريحة للدستور. إضافة إلى الإشارات المتعددة التي تهدد توازن السلطات الذي أقره الدستور و التي تثير تخوفات من الإنزياح نحو نظام حكم رئاسوي فردي واستبدادي
مسؤولية حركة النهضة في الأزمة : السعي المحموم للتمكين
تتحمل حركة النهضة مسؤولية كبيرة في الأزمة التي وصلت إليها البلاد اليوم. فلقد أرادت المرور بقوة بحكومة الحبيب الجملي المشكلة من مقربين منها ومن إئتلاف الكرامة و أضاعت شهرين من الزمن على التونسيين و ووترت بذلك الحياة السياسية. ثم ناورت كيفما شاءت و مارست ضغوطات كثيرة عند تشكيل حكومة إلياس الفخفاخ لتظفر بأكثر ما أمكن من الحقائب الوزارية. ثم انتهت بإسقاطها و قد أعطاها الفخفاخ هدية ثمينة بقضية تضارب المصالح و هي حقيقة ثابتة عكس ما يدعي البعض. و خلال تشكيل حكومة المشيشي لم تكف حركة النهضة على المناورات مع حليفها قلب تونس لوضع المقربين منها في مراكز وزارية. و أخيرا و ليس أخر دفعت بقوة لتحوير وزاري شامل سابق لأوانه لتقيل بموجبه الوزراء المحسوبين على الرئيس لتضع مكانهم وزراء مقربين منها في حركة استفزازية وترت الأجواء المتعفنة أصلا بين مؤسسة الرئاسة و مؤسسة البرلمان. لقد ضاقت شرائح واسعة من التونسيين ذرعا بالسعي المحموم لحركة النهضة منذ 10 سنوات للسيطرة على مفاصل الحكم و الهيمنة على أجهزة الدولة. فالتونسيون ككل البشر يرفضون سيطرة حزب سياسي أو طرف ما و هيمنته على السلطة و استفراده بها أمام ضعف الأطراف الأخرى. لذلك تجد الدعوات لإقصاء النهضة من الحكم صدى لدى شرائح واسعة من المواطنين.
تيارات شعبوية و يمينية متطرفة (ديمقراطية بدون ديمقراطيين)
لقد لعب الحزب الدستوري الحر منذ بداية هذه العهدة النيابية دورا مخربا للعمل البرلماني بعرقلته المتكررة لنشاط مجلس النواب بأشكال مختلفة تغلب عليها البلطجة و التهريج. فالحزب الدستوري الحر وهو سليل المنظومة الديكتاتورية للنظام السابق يمارس و بطريقة واعية و مخططة عملية عرقلة وتحقير للبرلمان كنوع من «الانتقام» revanche على الثورة و المؤسسات االمنبثقة عنها. و يجد هذا الحزب اليميني المتطرف و المعادي للديمقراطية مساندة لدى شرائح ناقمة و متحسرة على خسارة الإمتيازات و المنافع الذي كانت تتمتع بها في ظل الديكتاتورية بما فيها زعيمة الحزب مقابل تطبيلها للنظام السابق. و يلقى هذا الحزب بعض السند من شرائح بورجوازية متخلفة كانت تقتات من التسهيلات و الإمتيازات التي كانت تمن بها الديكتاتورية عليها في إطارالعلاقات الزبونية. و هي عاجزة عن التكيف مع مناخ التنافس النزيه الإقتصادي و السياسي.
و نفس العمل التخريبي للنشاط البرلماني يمارسه إتلاف الكرامة و هو حزب يميني متطرف سليل روابط حماية الثورة يجمع بين السلفية العقائدية و الراديكالية العنيفة معادي للديمقراطية و الحريات و كل قيم التقدم.
و الوضع ليس بالأفضل لدى بقية الأحزاب الممثلة في البرلمان. حيث تغلب الشعبوية على غالبية الأحزاب و الصراعات التافهة و الصغيره و المواقف الإنتهازية و تنشط السياحة الحزبية المبنية على المصالح و تغلب المصالح الفؤوية و الحزبية على المبادئ الديمقراطية. فكل شيء جائز و كل الأسلحة مباحة لإسقاط الخصم حيث تغلب مقولة «عليا و على أعدائي» حتى و لو أدى إلى سقوط سقف الديمقراطية على الجميع.
معضلة «الديمقراطية في بلد واحد»
إضافة إلى المعضلات التي أتينا عليها فإن «الحصار الإقليمي» الذي تعيشه الديمقراطية التونسية هو أحد المخاطر. فعند انتصار أول ثورة اشتراكية في العالم سنة 2017 اعتبر بعض قيادات الثورة الروسية بان الثورة الإشتراكية لا يمكن أن تنتصر وتنجح في بلد واحد لأن الرأسمالية المسيطرة في جل أنحاء العالم ستخنقها اقتصاديا وصولا إلى الإطاحة بها عسكريا. وقد صحت هذه المقاربات كما أظهرته الأحداث التاريخية فيما بعد. و هذا يمكن أن ينطبق على الثورة التونسية و على الديمقراطية التي نشأت عنها. فعلى المستوى الإقليمي العربي فإن الديمقراطية التونسية تعتبر « الإبن الضال» و «المثال السيء» بالنسبة للديكتاتوريات العربية المهيمنة من المحيط إلى الخليج. فهذه الأنظمة تخشى عدوى «الحريات والديمقراطية» أكثر من خطر عدوى الكورونا وترتعد فرائصهم منها. لذلك تتواصل مؤامرات الأنظمة العربية ضد الديمقراطية التونسية و تواصل ضغطها على معنويات التونسيين الذين تنهكهم حالة الصراع السياسي فتدفع بشرائح واسعة إلى الدعوة لإرساء ديكتاتورية جديدة يعتبرونها عن خطا نوعا من الملاذ و الخلاص من الأزمة المستفحلة المتعددة الأبعاد. وبالمقابل فإن نجاح التجربة الليبية و حالة الإنفتاح السياسي في الجزائر بعد «الحراك» و الملكية البرلمانية في المغرب تمثل متنفسا و نوعا من الإسناد و الحماية للتجربة التونسية.
قصارى القول بأن هنالك اليوم تهديدات جدية للديمقراطية التونسية. و أن على القوى الديمقراطية أن تختار بين المهم و الأهم لردع تلك التهديدات و تثبيت وتصليب الديمقراطية.

المشاركة في هذا المقال