Print this page

الطّريــق إلى الجـــــامعــة

بقلم: نادية الذّوادي
أستاذة مساعدة حاصلة على التأهيل الجامعي
جامعة تونس
درست في المعهد العالي للتّصرف بتونس، في الجامعة في بدايات التّسعينيات من القرن الماضي، وفي أواخر نفس العشريّة أصبحت مدرّسة فيها.

وعرفت مثل كلّ أبناء جيلي مصاعب التّنقّل إلى الجامعة للدّراسة، ولكنّني عرفت أيضا، وإن بشكل مختلف، صعوبة التّنقّل إلى الجامعة للتّدريس.

تصوّر نفسك طالبا في المعهد العالي للعلوم الإنسانيّة بتونس المعروف بابن شرف على سبيل المثال وتصوّر أنّك تقيم في مبيت جامعي في المروج. ستكون يوميّا على موعد مع مأساة يمكن لنا أن نختار لها من العناوين «الطّريق إلى الجامعة». تذكّر أنّك تعيش في مدينة كبيرة، هي أيضا عاصمة إداريّة واقتصاديّة، نادرا ما ترى وسائل النّقل العموميّ تمرّ في شوارعها المزدحمة. وتذكّر خاصّة انّه ليس لوسائل النّقل العموميّ النّادرة توقيت معلوم معلن أو ساعات مرور معلّقة في المحطّات يقع احترامها وينظّم النّاس حياتهم انطلاقا منها واستنادا عليها.
هذا يعني أنّك لو كنت طالبا متّجها إلى كلّيتك صباحا، فعليك أن تعتمد على حظّك وعلى ظروف ومعطيات خارجة عن نطاق سيطرتك لتقدير وقت خروجك من بيتك ووصولك إلى كلّيتك أو معهدك العالي. في أرجاء أخرى من المعمورة، يعرف الطلبة متى يأتي القطار أو المترو أو الحافلة وكم تستغرق الرّحلة من الوقت للوصول إلى العمل أو مكان تحصيل العلم.

ليس الأمر أفضل بالنّسبة إلى المربي أو الموظّف حتى وإن اعتمد أغلبهم على سيّارة خاصّة تغنيه عن وسائل النّقل العموميّ النّادرة والمكتظّة دوما. سيخوض يوميّا غمار الشوارع المزدحمة ذاهبا إلى عمله أو عائدا منه أو لقضاء حاجات مختلفة بينهما.
نحن نضيّع معا طلبة ومدرّسين وموظّفين وقتا يوصف في بلاد أخرى بأنّه ثمين. وقت مهدور في الطّريق من المسكن إلى الجامعة ومن الجامعة إلى المسكن.

النّتيجة معروفة سلفا، وستكون تعبا شديدا للطّالب والمدرّس والموظّف أو العامل بالمؤسّسات الجامعيّة، ووقتا ضائعا على حساب التّحصيل العلميّ والتّدريس والعمل والحياة الاجتماعيّة والعائليّة، وضغطا شديدا سيؤثّر حتما على الصّحّة والمردوديّة والمزاج العامّ.

لكنّ الأمر لن يتوقّف عند انعكاسات محدودة تطال أشخاصا، يمكن لبعضهم أن يجد حلولا فرديّة متفرّقة تمكّنهم من تجاوز المشاكل الآنفة الذّكر ولو على مستوى ضيّق. نحن نشهد الآن في جامعاتنا انعكاسات صعوبة الوصول إليها؛ أصبح لدينا مؤسّسات جامعيّة فارغة أو تكاد بسبب غيابات الطّلبة عن الدّروس وهجرهم للمكتبات وقاعات المراجعة وابتعادهم عن تكوين نواد أو تنشيط حياة ثقافية ورياضيّة ومواطنيّة داخل جامعاتهم. باختصار شديد أصبح لدينا طلبة همّهم الأكبر مغادرة الدّرس للتّمكّن من العودة إلى بيوتهم ومبيتاتهم، هذا إن حضروا طبعا. ولا يوجد أمر يؤسف ويحبط المدرّس والباحث مثل فراغ ساحات مؤسّسات كانت فيما مضي تعجّ بالطّلبة والباحثين حتّى في صباحات وأمسيات يوم السّبت.
ليس الطّلبة وحدهم من هجروا ساحات مؤسّساتهم الجامعيّة. أصبح الأساتذة أيضا يذهبون إلى كلّياتهم ومعاهدهم فقط للتّدريس ويخرجون منها بمجرّد انتهاء دروسهم. لم يعد المدرّسون والباحثون يبقون في مكاتبهم للعمل والبحث ساعات طويلة بعد انتهاء الدّروس، كما يحدث في معظم جامعات العالم. لم يعد الأساتذة يلتقون مع زملائهم لتبادل الرّأي والأفكار

والتّباحث حول مسائل أكاديميّة أو مهنيّة. ولم يعد سهلا جمعهم في الاجتماعات المهنيّة أو في مناقشات المذكّرات والأطروحات. الأغلبيّة تنزعج بمجرّد إعلامه، أنّ عليه أن يتنقّل إلى مؤسّسته التي يعمل بها خارج أوقات التّدريس.
لا شكّ أنّ غياب ظروف بحث جيّد تفسّر هذا الهروب من الكليّة والمعهد، لكنّ صعوبة الوصول إلى الجامعة هي أيضا من الأسباب التّي تجعل الأغلبيّة تفرّ منها وتتركها مقفرة في حين أنّها كانت لسنوات عديدة خلت، تعجّ بالحياة والطلبة والباحثين.

1 - حلم: المركّب الجامعي 2040
أغمض عينيك عزيزي القارئ وتخيّل أنّك مواطن تونسي يعمل ويعيش في طبربة سنة 2040. تخيّل أنّ ابنتك الكبرى تدرس الفيزياء في كلّية العلوم الرياضية والفيزيائية والطبيعية وهي جزء من جامعة تونس المنار.
تقيم ابنتك الكبرى في الحيّ الجامعي الموجود في مركّب فرحات حشّاد بالمنار، حيث بنيت إلى جانب المعاهد والكلّيّات ثلاث مبيتات جامعيّة تقيم ابنتك في إحداها. هذا ما يمكّنها من أن تتنقّل إلى كلّيّتها على القدمين أو على متن درّاجتها الهوائيّة. وهي بالطّبع تتردّد على المطعم الجامعي الموجود بذات الحيّ مرّتين في اليوم للغداء والعشاء.
يمكنها أن تشتري حاجيّاتها أيضا من المتاجر والمحلّات التي بنيت في محيط الحيّ الجامعي. تتردّد ابنتك أيضا على مكتبة الجامعة التي تتوسّط الحيّ الجامعي والتي تفتح أبوابها للطّلبة على السّاعة الثّامنة صباحا وتغلقها في منتصف اللّيل. يمكن لابنتك أن تعود من المكتبة إلى المبيت ليلا دون أيّ إشكال أمنيّ، فالمسافة قريبة والأمن مستتبّ في المدينة الجامعيّة.
تحصّلت ابنتك مثل كثير من الطّلبة على عمل صغير بالمكتبة الجامعيّة، التي صمّمها طلبة وبنيت منذ سنوات لتكون واحدة من أجمل المكتبات في تونس.
أحيانا تمارس ابنتك بعض النّشاطات الثقافيّة في المركز الثّقافي الذي يقع غير بعيد عن المكتبة والذي يتضمّن نوادي للرّسم والسينما والأدب. وقد حضرت في السّنة الفارطة معرضا للرّسوم لمجموعة من الطّلبة كانت ابنتك من بينهم.
تمارس ابنتك الرّياضة في القاعة الرّياضيّة الجامعيّة التي تقع على بعد عشر دقائق مشيا من المبيت والتي يعمل في إدارتها كثير من الطّلبة. وتواظب ابنتك على متابعة العروض المسرحيّة التي تعرض في قاعة المسرح الموجودة في المركز الثقافي الجامعيّ. كما تحرص على مشاهدة الأفلام الجديدة التي تعرض بقاعة العرض السينمائي بذات المركز وعلى حضور حلقات النقاش حولها في نادي السينما.
أحيانا تذهب ابنتك على متن درّاجتها إلى بعض الحفلات الموسيقيّة أو للتّجوّل مع أصدقائها في المدينة العتيقة التي أصبحت منذ سنوات مدينة فنون. أصبح لمدينة تونس مسلك درّاجات جميل منذ تخلّصت من ضغط الازدحام. كلمة الازدحام هيّ التي تجعلك تفتح عينيك لتتذكّر معاناة الطّلبة وهم في الطّريق إلى الجامعة.

2 - واقع: مؤسسة جامعيّة 2021
عزيزي القارئ، عندما كنت طالبا لم يكن حظك مثل حظّ ابنتك. كنت تدرس في كليّة الآداب والعلوم الإنسانيّة في شارع 9 أفريل، وتسكن في مبيت جامعي بالمروج الخامس. وحين تفوتك حافلة المبيت في الصّباح، تستقلّ المترو للوصول إلى محطّة برشلونة، وتغيّر خطّ المترو للوصول إلى باب سعدون لتركب حافلة تقلّك إلى الكلّيّة. ولأنّ المترو غير منتظم والحافلة قد لا تأتي أبدا، فأنت غالبا ما كنت تستكمل الطّريق مشيا على الأقدام مما يجعلك غالبا ما تصل متأخّرا على بداية الدّروس. ولم يكن طريق العودة إلى المبيت أسهل طبعا.
تعود بعد يوم الدّرس متعبا، تحبس نفسك في غرفتك مع دروسك وهاتفك الذكيّ، مرآتك الوحيدة على العالم الخارجيّ.
حاولت طبعا أن تكون لك هوايات وأن تمارس الرّياضة وتتعلّم العزف على آلة موسيقيّة. لكنّ تعب التّنقّل انتصر وحوّلك إلى طالب لا يفكّر إلّا في طريق الذّهاب إلى الجامعة والعودة منها. وأنت كنت أفضل حظّا من زميل لك يسكن في حيّ الغزالة وليس لوالديه سيّارة يوصلانه بها، سريعا ما ملّ تعب التّنقّل وانقطع عن المجيء المنتظم إلى الكلّيّة، قبل أن ينقطع عن التّعلّم نهائيّا ويضع حدّا لحلمه وحلم أبويه بالظّفر بشهادة جامعيّة.

3 - خاتمة:
لم تحظ عزيزي القارئ بما يمكن أن تحظى به ابنتك بعد عشرين عاما: مركّب جامعيّ يمكن أن تدرس فيه وتتمتّع فيه بمختلف الخدمات المرافقة للدّراسة. سيجعلها هذا المركّب الجامعي توفّر وقتا لتعميق معارفها العلميّة وتوسيعها، ولممارسة هوايات مختلفة تمكّنها من بناء شخصيّتها الاجتماعية وإثراء عالمها وتنويع مرجعياتها والانفتاح على الأفكار الأخرى.
حان الوقت لنعيد التّفكير في الخارطة الجامعيّة. سيحلّ ذلك مشاكل النّقل والمشاكل المتّصلة به من تلوّث وإهدار للوقت والأموال. سيمكّننا ذلك من العودة إلى فكرة نسيناها وتخلّينا عنها وهي جودة الحياة في مدينة تونس وفي مدن عديدة لم تعد قابلة للحياة ولاستقبال قادمين جدد. لكنّ الأهمّ من ذلك، ستعود المؤسّسات الجامعيّة إلى الامتلاء بطلبة يقصدونها للتّعلّم وللقاء أصدقائهم وأساتذتهم وللتّحلّق حول الأفكار والنّقاشات والإبداع. وسيعود الجامعيّون إلى مكاتبهم للبحث والإنتاج، ولإنارة جامعاتهم ومخابرهم. ما يبدو حلما اليوم يمكن أن يصبح واقعا في الغد القريب إن توفّرت الإرادات لذلك.

المشاركة في هذا المقال