Print this page

السيدة عبير موسي عفوا: ما قبل الثورة لـم يكن أبدا هو نعيم النساء.. والثورة ليست هي «اللَظَى النَزَّاعةُ لِلشَّوَى»

بقلم: يسرى فراوس
يوم الإثنين 8 فيفري، عقدت لجنة شؤون المرأة والأسرة والطفولة والشباب والمسنين بمجلس نُوّاب الشعب جلسات استماع

متتالية حول تنامي ظاهرة العنف ضد المرأة خُصّصت الأولى للهيئة المستقلة للاتصال السمعي والبصري والثانية لمنظمات المجتمع المدني مُمَثَّلَة في الجمعية التونسية للنساء الديمقراطيات والرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان ورابطة الناخبات التونسيات والاتحاد الوطني للمرأة والثالثة لوزيرة المرأة والأسرة وكبار السن.
ولعلّه من المثير للانتباه تلك الصّبغة الماراثونية لجلسة جمعت بعض المُتدخلين في قضية العنف المُسَلَّط على النساء في يوم واحد. ماراثونية وتحشيد تحسب معهما أنّ العنف طارئٌ قد جدّ حديثا وباغت الجميع بمن فيهم مُمثلات ومُمثلي الشعب بالبرلمان، فإذا هم يستنهضون الهمَّةَ ويستعجلون الأمرَ للتباحث في التسونامي الذي ألمّ فجأةً بالبلاد وأهلها علّهم يجدون السبيل الأقومَ والأنجعَ لكنسه من الديار. لقد فعلوا ذلك أو شُبِّه لهم أنّهم يفعلون فيما بيانات الجمعية التونسية للنساء الديمقراطيات وكل تحركاتها تكتظّ بالأدلّة الساطعة على أنّ ذلك العنفَ، وباءٌ يوميٌّ ينهش أجساد النساء ويفترسُ المجتمع التونسي دون هوادة ويتنامى في ظل اللامبالاة غير المتناهية لحُكّام البلاد وساستها ومؤسساتها وهذا طبعا في أحسن الأحوال لأنّه في أسوئها يُمارَس دون حياء وبكلّ صَلَفٍ مِن قِبَلِ أولئك الحُكّام والقائمين على أجهزته ومؤسساته.
إنّ الأمرَ بما هو عليه من الاستعجال والتحشيد، لَيُوحي بأنّ لجنة شؤون المرأة والأسرة والطفولة والشباب والمُسنين قد استشعرت الخطر أخيرا وستكون بالتالي جلستها جلسة حاسمة تُفضي إلى قرارات مصيرية لكنّ الجبلَ إذ تمخّضَ لم يَلدْ إلاّ فأرا.فعدا ذلك التقرير البيرقراطي البارد الذي نُشر على صفحة المجلس عارضاً رؤوس أقلام النقاش مُنتهِيا إلى استخلاص وجود تباينات في التقييم بين النّائبات والنُّواب بخصوص ما تمَّ تحقيقُه، مُقدّماً توصيات عامّة، مُذيِّلاً ذلك بتنديد مُحتشِم بالعنف على الناشطات، عدا هذا «الطبق البايت» إذن، لم نجد للجلسة صدًى يُذكَر ولا نظن أنه سيكون لمثل هذه الجلسات أثرٌ طالما نحن نعيش في ظلّ هذا الواقع السياسي والاجتماعي الرديء الذي تسوده ثلاثةُ مآزق كبرى ألا وهي الشعبوية وغياب الإرادة السياسية ونزعات الاستبداد المتنامية بشكل مُرعب حيث عادت الدولة إلى ممارسة العنف والعنف الخصوصيّ تحديدا ضدّ النساء. وهذه المِحَنُ الثلاث إنّما تنزع عن الدولة أيَّ فرصة لتكون جادَّة في التزامها الدستوري والقانوني بالقضاء على العنف المستهدف للنساء لكونهن نساء وإنّ ذلك لحاجزٌ من أشدُّ الحواجز وأخطر العراقيل على طريق الوصول إلى المساواة.
قد يتساءل القارئ/ـة عن وجاهة الكتابة عن هذه الجلسات ما دام مَحصولُها بهذا الوهن والهُزال. وللجواب أقول، بعد انقضاء تلك الجلسة، نشرت إحدى صديقاتي على صفحات التواصل الاجتماعي، وهي شابة متّقدة الحسّ النّسوي، تدوينة تُشيد فيها بتدخّل السيدة عبير موسي رئيسة الحزب الدستوري الحر بالجلسة المخصصة للاستماع لوزيرة وهي النائبة المُعرَّضة للعنف السياسي المُمنهَج تحت قبة البرلمان، فاعتراني الفضول لأستمع لخطابها وبعدها اعترتني الرغبة في تفكيك جزء منه. الجزء الذي أزعجني وأرى أنه من الخطورة بمكان.
في البداية، لن آتي على ما لا خلاف فيه من قبيل وجود أخطار جدية مُحدقة بالمشروع المجتمعي وبحقوق النساء المُكتسبَة بما فيها مجلة الأحوال الشخصية منذ 2011 والتي قد تعاظمت منذ انتخابات 2019 ولا مجال لمناقشة الموقف من هذه الحكومة التي لا شك في ذكوريتها وإقصائها للنساء ولا أيضا الأداء الضعيف لوزارة المرأة وعدم قدرة الوزيرة على استشعار الأخطار المحدقة بالنساء والرد المناسب عليها في حينها، ولكنني أخصّص هذه الأسطر إلى ما سرَّبَتْه رئيسةُ الحزب الدستوري الحر من رسائل ترقى إلى مستوى المغالطات التي تستوجب الردّ عليها وتصحيحها لأنها تتعلق بنظرتها لقضية النساء تحديدا وقد بدأت خاصة منذ تعرضها لسلسلة من العنف السياسي الخطير والممنهج (إذ لم تجب المؤسسات عنها وخاصة منها البرلمان ولا رئاستها ولم تردعها) تصدح بمواقف أقوى في هذا الغرض.
من حيث الشكل كما من حيث المضمون، بَنَتْ السيدة عبير موسي خطابها على الثنائية التقليدية التي تُجيد اللعب عليها، تلك التي تمجّد من خلالها ما قبل 2011 وتُمعن تباعا في ترذيل ما بعد ثورة 2011.
أما في ما يتعلق بالشكل، فكأنما لم تحدث ثورة في البلاد ولم يُفسَح المجالُ لتباينات في الرؤى والمواقف حول كل شيء تقريبا حدّ التجاذب والتطاحن، وكأنّ المنابر المتعدّدة لم تُقَم للتداول والتبادل ومُقارعة الرأي بالرأي بدءا من صفحات التواصل الاجتماعي مُرورا بكل فضاءات النقاش العمومي صُلبَ الأحزاب والنقابات ومنظّمات المجتمع المدنيّ وصولا إلى مؤسسات الدولة بما فيها القوى المعارضة التي يُمثّل الحزب الدستوري الحر اليوم جزءا منها. ومثلما كان عليه حالُ الأولى من ضُروب الرقابة والحجب والمُصادرة، كانت حال الثانية في الاحتكار والاقتصار على الحزب الواحد والرأي الواحد، فلا حجاج ولا لجاج ولا مكان لرأي مُخالف في أيّ شأنٍ وأيّ مَقامٍ. في مشهدٍ احتكاريٍّ وأحاديٍّ مُشابهٍ لما قبل 2011، وجدت رئيسة الحزب الدستوري الحر كامل الأريحيّة لتلقي خُطبتَها العصماء متراصّة البناء الفكري واللغوي. وبمجرّد إنهائها، أعلنت مُغادرتها القاعة لأنّ الزعيمة تقول ولا يقال لها. ورغم محاولة رئيسة اللجنة إثناءَها عن المغادرة، إلا أنها اكتفت من الجلسة بما ألقتْ من مونولوج بديعٍ لم تكن معه في حاجة إلى الإنصات إلى ردود وزيرة المرأة بذريعة أنّ هذه الأخيرة فوّتت على نفسها سابقا عديد الفرص كي تجيب عمّا كان يُطرَح عليها وتُسأل عنه. لكنّ الحقيقة التي لا تُخطئها العينُ البصيرة، أنّ السيدة عبير موسي تعوّدت النقاش على طريقة تونس 7 طيّبَ الله ثراها وذكراها وهو ألاّ يكون هناك نقاشٌ !
في المضمون وهو الأهم بنظري، داخل نفس القوقعة، تمترست رئيسة الحزب الدستوري الحر لتمجيد ما سبق الثورة وترذيل ما بعدها في علاقة بوضع النساء انسجاما مع قراءتها الستاتيكيّة والإسمنتيّة القائلة بأنّ ما وقع وعشناه ودفعنا ثمنه غاليا في هبَّةّ شعبية هادرة، لا يعدو أنْ يكون انقلابا.
بتلك العبارة الجامعة «دولة الاستقلال» وصفت الوضع وأقامت الحدّ، والعبارة -على مشروعيتها-هي ممّا لا يُقبل ولا يُستساغُ. فدولة الاستقلال سرعان ما تحولّت إلى دولة الاستبداد أو ما يَجوز لي بشيء من اللهو اللغوي أنْ أُطلِق عليه دولة «الاستقباد» في تشقيق يجمع بين تينك الحقيقتين التاريخيتين. انطلاقا من هذا التوصيف وحده يمكن أنْ نُزعزع الحدّ الفاصل بين الزمنين. فإذا كانت المُقارنات جائزة وتروق للكثيرين في ما يتعلق بعدد من المسائل كالوضع الأمني والوضع الاقتصادي والاجتماعي وجميعها قابلة لنقاش عميق لا أدّعيه في هذا المقال، إلاّ أنه في ما يتعلق بوضع الحقوق والحريات ووضع النساء، لا يمكن مُجاراة رئيسة الحزب الدستوري الحر في الثنائية المطلقة التي تُقيمها وتحاول ترسيخها. فلا دولة «الاستقباد» كانت جنة النساء ولا ما بعد الثورة كان هو جحيمهن.
في تمجيد دولة «الاستقباد» تباهت السيدة عبير موسي بكل المكتسبات وبنفس العبارات المستساغة لدى الرأي العام من قبيل «النموذج التونسي» ومازالت تذهب في تجميل ما سبق، حتّى قالت بأنه «في 1956 لم تعش المرأة التونسية الإهانة التي نلقاها اليوم».
لا شك أنّ مجلة الأحوال الشخصية بما هي دستور العائلة التونسية قد أرست اللّبنات الأولى لتحرّر النساء وساعدت تدريجيا على وُلوجهِنّ إلى الحياة العامة رغم مكامن القصور فيها وخارجها، لكن وطالما ركّزت السيدة عبير موسي على المشاركة السياسية للنساء وربطتها بالعنف، فإنني أكتفي بالردّ عيها في هاتين النقطتين لأخلص لكون ادّعاءاتها بأنّ الأولى كانت مكفولة وأنّ العنف كان موضع تدخل الدولة، إنّما هو قول مُتهافتٌ مردود عليها مُجملاً ومُفصَّلاً.
أما بخصوص للمشاركة السياسيّة، فلعلّه من الوجيه التذكيرُ بأن سنة 1956 التي اختارتها السيدة عبير موسي كتاريخ مفصلي باعتباره تاريخ المصادقة على مجلة الأحوال الشخصية، كان أيضا تاريخ أوّل انتخابات أُجْرِيت بعد الاستقلال الذاتي وهي انتخابات المجلس القومي التأسيسي. هذا الموعد ارتبط ارتباطا وثيقا بإقصاء النساء من المشاركة السياسية.
لقد أُجْريت الانتخابات آنذاك بمقتضى أمر 29 ديسمبر 1955 المُحدِث للمجلس القومي التأسيسي والذي نصَّ في فصله الثاني على الآتي: «يعتبر كناخبين التونسيون الذكور والبالغ عمرهم 21 عاما شمسيا والمُقيمون بالتراب التونسي في تاريخ ختم الترسيم بالقوائم الانتخابية النهائية».
كان حصر صفة الناخب في الذكور دونا عن النساء حدّا من مبدإ عمومية الاقتراع وقد سبّب خيبة للنساء التونسيات اللاتي شاركن في حركة التحرر الوطني وتمَّ إقصاؤهن من المشاركة في صياغة دستور تونس الاستقلال، الشيء الذي لم يقع تداركُه إلاّ سنة 1957 بمناسبة الانتخابات البلدية وتحت ضغط النساء . ألم يشكل ذلك إهانة للتونسيات عند السيدة عبير موسي؟
ولعلّه من الضّروري لتقويض هذا المشهد بمطلقيْه الأبيض والأسود، والذي تحاول السيدة عبير موسي فرضه علينا، التذكير بأنّ أوّل مكسب للنساء التونسيات بعد ثورة 17 ديسمبر – 14 جانفي كان إقرار التناصف في القائمات الانتخابية في الفصل 16 من المرسوم المنظِّم لانتخابات المجلس الوطني التأسيسي. لقد تواجدت النساء بنسبة تجاوزت الثلاثين بالمائة صلب المجلس وهي نسبة لم تتحقق خلال 60 سنة من دولة «الاستقباد» وهو ما سمح أيضا ورغم الهزّات، وبفضل الحركة النسوية المستقلة والحركة الحقوقية والديمقراطية والتقدمية بتحجيم طموحات الإسلاميين في تسريب الشريعة مصدرا للتشريع وفرض التكامل بديلا عن المساواة، بل ومكّنت من فرض مبدإ المساواة والتناصف وتكافؤ الفرص وكذلك إلزام الدولة بالقضاء على العنف وتطوير مجلة الأحوال الشخصية في دستور 2014 وهي جميعا مبادئ والتزامات أهملها دستور دولة «الاستقباد».
في الممارسة الأن، وحول المشاركة السياسية للنساء دائما، شدّدت رئيسة الحزب الدستوري الحر أنه بفضل «نضالات دولة الاستقلال ونضالات رجال ونساء الدولة الوطنية وصلت النساء إلى مواقع قيادية ليترأسوا أحزابا سياسية وكتلا نيابية ومعارضة برلمانية». لم أعرف، أنا التي عايشت النصف الثاني لدولة «الاستقباد»، امرأة ترأست التجمع الدستوري الديمقراطي الحزب الوحيد الأوحد المتغلغل في الدولة والجاثم على صدور التونسيات والتونسيين على مدى عقود لولا الثورة التي فتحت آفاق التعددية الحزبية الحقّة رغم كل تشوّهاتها. وأنا لم أعرف كذلك في المعارضة الحزبية إلا مية الجريبي، فقيدة الساحة الوطنية، كأمينة عامة لحزب مُعارض وقد لاقت وحزبها الويلات آنذاك. فكلّ مَن عارض ابن علي تعرّض للتنكيل والسّجن والقمع والاستبداد. ولستُ أعلم كيف كان يمكن الحديث عن رئيسات كتل نيابية مُعارضة أو حاكمة في زمن الاستبداد وقد كان ثمن المعارضة باهظا إلاّ من رحم ابن علي واختارهم كمُعارضة كرتونية تناشده في كل موعد انتخابي للترشح مجددا. أفلا يشكّل كل ذلك إهانة للتونسيات برأي السيدة عبير موسي، أو ليس الفضل للثورة والنضالات الحقوقية في وصولها اليوم لرئاسة حزب معارض؟
خارج الأحزاب السياسية، قبل الثورة، كانت مُواطَنَةُ النساء ومشاركتهنّ منقوصة ومقيّدة فحتى العمل المدني، خارج آلاف الجمعيات الصورية والموالية للحزب الواحد، كان غير مُتاح بفعل قمع حريات التعبير والتنظم . لا فائدة هنا من الحديث عن الترهيب والترويع والمحاصرة للحقوقيات والنسويات وعلى رأسهن مناضلات الجمعية التونسية للنساء الديمقراطيات ولا عما لاقته كل من راضية النصراوي وزينب الشارني ونزيهة رجيبة وسهام بن سدرين وعايدة الهاني ونجوى الرزقي وفاطمة قسيلة وزكية الضيفاوي وغيرهن من تضييقات وهرسلة وسجن وتقييدات، بل لعلني أذكر مثالا حيّا من آل البيت الحاكم: شهادة راضية الحداد التي عوقبت كرئيسة للاتحاد النسائي بسبب عدم إرسال برقية تأييد للرئاسة مدى الحياة إذ تروي هذه الواقعة فتقول «وفي خضم تهاطل برقيات التأييد من كل الجهات، اتصل بي هاتفيا الفرجاني بالحاج عمار طالبا مني موقف الاتحاد النسائي...اجتمعت اللجنة المركزية للاتحاد القومي النسائي التونسي للنظر في الأمر وقررت بالإجماع عدم بعث برقية تأييد...وبلغني أنّ ضغوطات عديدة سلطت على النائبات الجهويات للاتحاد… كل المحاولات كانت لإجباري على التسليم « (راضية حداد، اقتناعات راسخة، نساء وذاكرة، ص97و 98).
إنها شهادة نادرة وشجاعة في زمن ندرت فيه الشجاعة حيث تم بعد انقلاب 1987، الذي سُمّيَ تجوّزا ومجازا بالتغيير -وكان مباركا-، ترهيب النساء كي لا تمارسن مُواطنَتِهن الكاملة إلاّ في الأطر التي اختارها ابن علي ونظامه لتكون أبواق دعاية حزبية وسياسية ومنها الاتحاد الوطني للمرأة التونسية والذي، عَرَضًا أيضا، وفي خطاب رئيسة الحزب الدستوري الحر، المتماهي تماما مع ما قبل الثورة، في إنكار للتعددية الجمعياتية ولواقع السّاحة النضالية والنسوية، نصّبته أثناء الجلسة، رئيسا للحركة النسوية، بينما يتلمّس الاتحادُ منذ عشر سنوات طريقَه ويُحاول وسعه وبمشقة بالغة، ألاّ يقع في مخالب التوظيف السياسي فيعود إلى ما كان عليه في سابق العهود والجُدود.
أصِلُ الآن إلى مسألة العنف ففي إطار تمجيد الماضي القريب قالت رئيسة الحزب الدستوري الحر أنه «لم تعش المرأة التونسية سكوت الدولة على العنف كالذي نراه اليوم...». كنت ربما أستسيغ قولها لو ذكرت مثلا أنّ المرأة التونسية لم تعش عنفا برلمانيا كالذي تعيشه اليوم أو حتى القول بأنّ المرأة التونسية لم تعش وحشية العنف كالذي تعيشه اليوم. أمّا وقد اختارت الحديث عن السكوت عن العنف وسكوت الدولة تحديدا، فمن الواجب واحتراما للذاكرة وتوقيراً للتاريخ، تذكيرُها بأنّ موضوع العنف كان من المحظورات خلال الفترة التي عايشتُها من دولة «الاستقباد». يكفي أنْ نشير هاهنا إلى أنّ الكتاب الذي أعدّته الجمعية التونسية للنساء الديمقراطيات عن العنف بعد ندوة دولية عقدتْها سنة 1993 ظلّ ممنوعا من النشر إلى حدود سنة 2008 وأنّ مَقَرّ مركز استقبال ضحايا العنف ظلّ إلى حدود 14 جانفي 2011 مُحَاصَراً مِن قِبَل بوليس ابن علي.
خلال فترة «الاستقباد» تلك، كانت السّلطات التونسية، التي طَاَلمَا استغلّت حقوق النساء في الدعاية للنِظام والقولِ باحتِراَمِهَا لحقوق الإنسان وذلك خاصة في المنتديات والمؤتمرات الدولية، ترفض وبشكل دائم ومطلق الاعتراف بوجود العنف المبنيّ على عصبية الجنس في تونس وإنّ في تشريعاتها ما يَدلّ على ذلك دلالةً ليس بوسع أحدٍ أنْ يُنكرها.
من الناحية التشريعية، لطالما خلت الترسانة القانونية من تعريف للعنف المُسلّط على النساء بل لطالما تجاهلَ المُشَرِّع عددا من أنواع العنف ومنها العنف الرّمزي والعنف الاقتصادي والعنف المؤسساتي والسياسي الذي كانت تمارسه الدولة وفي أحيان كثيرة، فإنّ القوانينَ كانت تبني الصّورَ النَمَطيِةَ في العلاقات بين الجنسين لتُعِيدَ إنتاج العنف بِفعل القانون ونستدلّ هاهنا ببعض الأمثلة أهمها تنقيح المجلة الجزائية سنة 1993 لإدراج العنف الزوجي ولكن بتشجيع القرين بالنص على الإسقاط ما يحدث دائما تحت ضغط المجتمع على الزوجة، وكذلك سماح المجلة الجزائية للمغتصِب بالزواج من ضحيّته القاصر للإفلات من العقوبة، وثالثها تنقيح سنة 2004 الذي، بعد حملة ضغط من الجمعية التونسية للنساء الديمقراطيات، تَمَّ من خلاله تجريم التحرش الجنسي، مع تخويف الضحية بإمكانية تتبّعها قانونيا إنْ لم تُثْبِت الجُرمَ في حقها رغم صعوبة الإثبات في هذه الجريمة الجنسية التي تقع في الأماكن المُغلقة وعادة ما يكون لمرتَكِبِها نوعٌ من النفوذ على الضحية.
إنه لمن الصحيح تماما، أنه بعد صعود الإسلاميين إلى سدّة الحكم وتحالفهم مع المافيات والرجعيات بما في ذلك عبر رسكلة التجمعيين، اُستُهْدِفت حقوقُ النساء. نعم لقد وضعوا عددا من المكتسبات موضع الشك ومن بينها الحق في التبنّي ومُصادقة تونس على اتفاقية القضاء على كافة أشكال التمييز ضد المرأة بل وروَّجوا ويُروِّجون إلى اليوم لزواج القاصرات وتعدّد الزوجات عبر أذرعتهم السياسية والإعلامية. نعم لقد استهدفوا الناشطات وغضوا البصر عن التهديدات وقائمات التصفية بالاغتيالات. نعم لقد تفاقمت وحشية العنف كما تفاقمت الجريمة وذهبت إلى أقصى مداها عبر الهجمات الإرهابية وفي تواطؤٍ تامٍّ من السلطة الحالية. كل هذا لا شك فيه ولا شُبهة عليه. لكن ما يتّجه التنسيب إليه ويقتضيه هو تصوير الخط الأخضر على أنه إجراءات شكلية «تركتها دولة الاستبداد» وتقزيم ما تحقّق منذ الثورة من قبل السيدة عبير موسي في محاكاة لما يفعله الإسلاميون في نكران كل مكتسبات ما قبل الثورة ونضالات متن قبل حكمهم ومن بعده.
خلال هذه العشرية، حقّقت الحركة النسوية المستقلّة بفعل اليقظة الدائمة ومقاومة الرجعية والالتحام بالنساء وقضاياهن مكتسبات قانونية لعلّها لا تقلّ قيمة وأثراً عمّا تحقّق زمن «الاستقباد» خاصّة وأنها، لانفتاحها على المنظومة الكونية لحقوق الإنسان للنساء، قد تخلّصت من ثنائيّة الأصالة والمعاصرة التي طبعت قوانين ما قبل الثورة جميعا ومنها تحديدا مجلة الأحوال الشخصية.
بعد الثورة، تمكّنت الحركة النّسوية من فرض التناصف ودسترته، ومن رفع التّحفظات الخصوصية التي أبدتها الدولة التونسية عند مصادقتها على اتفاقية إلغاء كافة أشكال التمييز ضد المرأة، ومن انضمام تونس إلى البروتوكول الإفريقي المتعلق بحقوق المرأة، وإلغاء المنشور الذي يعود إلى سنة 1973 والذي يمنع زواج المسلمة بغير المسلم، وتمكنت خاصة من وضع القانون عدد 58 لسنة 2017 المتعلق بالقضاء على العنف ضد المرأة. وهي اليوم تُواصل النضال الذي بدأته منذ أكثر من عشرين سنة من أجل إقرار المساواة في الإرث، أحدِ مظاهر التمييز الذي أرْسَتْه دولة «الاستقباد» والذي يسبّب إلى اليوم فقر النساء وتهميشهن.
هذه جميعها نصوصٌ تحتاج قطعا إلى مزيد الدعم والتكملة لتصير الواقع المنشود الذي نريد أنْ تعيش في كنفه النساء، لكنّها نصوص تم انتزاعُها بفعل النضال ورغما عن غياب الإرادة السياسية ورغما عن الشعبوية والرجعيّة ورغما كذلك عن عودة عنف الدولة. إنها نصوصٌ وُلِدت في مناخ حرية التعبير الذي مَنحتْه الثورةُ ولعلّها تلك الحرية التي أيقظت في النساء الاعتداد بكرامتهن والتشبث بحرياتهن وحقوقهن. وإني لأرى في تقديم مجموعة من النساء الشُّجاعات في قفصة مؤخرا عريضة لتطليق أزواجهن ردّاً على مسؤول بالدولة بخسهنَّ حقَّهُن في الشغل باعتبار أنّ أزواجهن عائلون لهن، وفي ذلك رجع صدى للفصل 23 من مجلة الأحوال الشخصية التي أفردت الزوج برئاسة العائلة، إنّي لأرى في ذلك ثورة داخل الثورة لأنّ النساء يُثبِتن في كل حين ومِن مختلِف مواقعهن، أنهن قادراتٌ على التصدي للرجعية بكل تمظهراتها، القديمة والجديدة، وهن تائقاتٌ للمساواة التامة والفعلية، توّاقات للحرية «خُلِقنَ طليقاتٍ كطيف النسيم *** وحرائرَ كنور السما في ضُحاه».
لعلّني بهذا النص أسهم في تحطيم الجدار العازل بين ما قبل 2011 وما بعده في علاقة بحقوق النساء، ولعلّ الدرس المُستفاد للجميع هنا كون الثورة لم تجُبَّ ما قبلها لأنّ ما اُكتُسِب من حقوق للنساء هيّأ فعلا لما بعده وعلى الإسلاميين استيعاب ذلك مليا وأن ما بعده تخلّص من الشكل العمودي الذي تملي فيه الدولة تصورها لقضايا النساء لتتفاخر به بين الأمم وهو ما يجب على السيدة عبير موسي هضمه. إنّ مناخ الحرية سمح بنضال أوسع وبافتكاك حقوق أخرى وما بين هذه الحقوق وتلك، كان هناك وسيظلّ نضالٌ للنساء طويلٌ وعنيدٌ. فهنّ، وحدهنّ، صاحباتُ الإرادة والفضل والراكضاتُ في درب الحريات الطويل! فدولة «الاستقباد» ما كانت أبدا نعيما مُطلَقاً... وعشرية الثورة ليست جحيما مطبِقاً وإنما هو المدّ والجزر والديالكتيك التونسيّ الهائلُ والعارمُ يمضي إلى غايته وإنه لمُدركُها وإننا لفاعلون: تركيز دولة المُواطَنة والمساواة التامة والفعلية في وطن العدالة والحرية والحياة الحيّة!

المشاركة في هذا المقال