Print this page

حديث الفرد: مريم والقفص الحديديّ..

ضاقت تونس بأهلها. تحيا تونس، منذ سنين، في غلق يشتدّ مع السنين. من العسر اليوم السفر. من الصعب اليوم الرحيل وقد رفعت في الأرض الحواجز والعراقيل.

انسدّت في وجه التونسيين السبل. نحن اليوم نحيا في شبه قفص. قفص حديديّ يخنق الأنفاس ويكدّر العمر. لا أحد اليوم يقدر على السفر. لا أحد يستطيع. أن تذهب إلى الغرب، إلى الشرق للفسحة، للشغل، للتعلّم، للعيش فيه...، أصبح هذا اليوم أمرا صعبا، عسيرا. هو أمر، للكثير، مستحيل. كلّ سفر يلزمه تأشيرة والتأشيرة يلزمها مال ووثائق وصبر داوود. غالبا ما ترفض التأشيرة وتعود منكسر الجناح، مهزوما. في زمن العولمة، كثرت الحواجز واشتدّ الغلق. في زمن العولمة، رفّعت الحيطان والأسلاك الشائكة...

  
هذه مريم شابّة متميّزة. في باريس، تعلّمت ونالت أحسن نتيجة. تحصّلت على شهائد عليا حقيقيّة. تريد مريم تربّصا حتّى تزداد مهارة وخبرة. ترجو مريم شغلا يمكّنها من العيش الكريم فتمشي في الأرض مرحا وتحلّق في السماء عاليّا. قلب مريم مفعم. كسبت قدرات ومهارة تريد أن تبيع في السوق ما كسبت. لمّا تلقى مريم شغلا أو تربّصا تفشل في تحقيق المبتغى لأنّها لا تقدر على نيل التأشيرة. هذه شركة انقليزية وأخرى فرنسيّة تدعوها إلى العمل فتفرح مريم وتعدّ الأوراق وتستعدّ للرحيل. تنتظر. يمرّ زمن طويل. ترفض السلطات طلبها. تعلمها الشركة أن بلا تأشيرة يغلق الملفّ وينتهي لدى مريم الأمل.

لا شغل لمريم في هذا البلد. اختصاص مريم صور متحرّكة. من في تونس يريد صناعة الصور المتحرّكة؟ في غيض ودون يأس، تعيد مريم الكرّة. تراسل الشركات في الغرب وفي الشرق علّها تلقى شغلا أو تربّصا أو عقدا صغيرا. علّها تخرج من بطالة مقيتة. غلّقت في وجه مريم أبواب السفر. منذ أيّام، أرى مريم حزينة. في صمت، تبكي حظّها المنكود. كانت مريم متفوّقة في الدراسة وهؤلاء زملاؤها من العالم يتدبّرون، يشتغلون، يكسبون. إلا هيّ. هي دوما في قعود. لا شغل لها ولا أجر ولا وجود. هي تونسيّة. هي ممنوعة من السفر. ليتها سعت وتحصّلت على جنسيّة غربيّة. لا أدري لماذا لم تسع مريم لنيل جنسية فرنسيّة. تحبّ مريم جنسيّتها التونسيّة... أحيانا، ألقاها في يأس. أحيانا، أخاف عليها ممّا تحمل من قنوط. مريم محبطة. هي في شقاء شديد. ماذا أتت مريم من شرّ، من منكر حتّى تغلق الأبواب في وجهها وتمنع من الرحيل؟ هي بنيّة مهذّبة، مثقّفة، وديعة.

ليست مريم وحدها في مثل هذا الوضع البائس، الشقيّ. الكثير ممّن أعرف يعيشون المرّ لكسب تأشيرة. مثل مريم، كثيرون. من الشباب ومن الكهول. كلّهم يريدون الهجّ من البلد وقد ضاق البلد بأهله وأصبح العيش فيه مرّا، عصيبا. تنظر إليهم فترى في أعينهم حزنا وفي قلوبهم نقمة. من يدري ما قد يحصل لمن أكله اليأس وانسدّ في وجهه الأفق؟ من يدري ما قد يكون لمن سكن فؤاد القنوط؟
  
لمّا كنت في عمر مريم، ما كان السفر أمرا عسيرا. أيّامها، كان العالم، على مصراعيه، مفتوحا. الكلّ يسافر حيث شاء، متى شاء، بلا تأشيرة، بلا رخص. أيّامها، كانت فرنسا بلدنا المفضّل. الكلّ إليه يرتحل. الكلّ إليه يمشي للدراسة، للشغل، للفسحة. أنا أيضا كنت إلى فرنسا أسافر. لمّا كنت طالبا، لمّا كنت في عمر مريم، عند كلّ صيف، أخذ جوازي وعدّتي وأمشي إلى الدنيا، إلى العالم. عند كلّ صيف، ألبس حذائي وآخذ حقيبتي وأمشي إلى فرنسا حيث ألقى الكثير من أهلي ورفاقي وهنّوف صاحبي. في فرنسا، أمرح. أتجوّل. أعمل ما ألقى من عمل. أربح مالا وأعود مبهرا بما رأيت من نظم، فرحا بما اشتريت من هدايا وأمتعة. في تلك السنين، كانت فرنسا قبلتي وملجئي. أيّامها، كان الكلّ يحبّ «العكري» حبّ الناس إلى الوطن...

ما كنّا في تلك السنين نكره الغرب وأهله. ما كنّا نراه خصما أو مستعمرا. بالعكس، كنّا نرى في الغرب قدوة. نتابع ما فيه من علوم ومن فنون. نأخذ منه معارفه. نتبارى في كسب مناهجه. يومها، كان لنا تطلّع وفينا ثقة. كانت قلوبنا مفعمة أملا. نؤمن أنّنا قادرون على الخروج من الظلمات، على الدخول إلى العصر.
أنا أحبّ الغرب. من الغرب، أخذت الكثير من فكري وألهمت حداثته بصري. تعلّمت الفرنسيّة وفتّحت لي الفرنسيّة السبل. ما كنت أحسب الفرنسيّة لغة أجنبيّة، لغة المغتصب. هي عندي لغة عصريّة. فيها أدب ملهم وخيال وفكر منهض. فيها طرق في النظر مختلفة. بالفرنسيّة، تغيّر نظري. اتّسع عندي الممكن. تأسّس فيّ شكّ دافع...
  
بعد ثورة 2011، انقلب الحال. أصبح الكثير من العامّة والخاصّة يكرهون الغرب. يرفضون فكره ونحوه. مع الثورة، طلع نمط جديد من البشر. انتشر بين التونسيين فكر بدويّ، عدائيّ، متشدّد. الكلّ يرفض الاختلاف ويلعن فرنسا والغرب والأمم المختلفة... من بين هؤلاء، هناك الجهلة. كم هم كثيرون في بلادي الجهلة. طلع أيضا قوميّون وأعراب وإسلامويّون ومن انغلقت قلوبهم وسكنتهم ظلمة. من باطن الأرض، انبعثوا. خرجوا كالغربان، كالدود ينهشون كلّ حياة وكلّ أخضر. ها هم يغلّقون الأبواب ويطفئون الأضواء ويرجمون القمر. ها هم يلغون العقل ويمنعون النظر. يغرسون في الرمل رؤوسهم. يفترون على الناس وعلى أنفسهم. يقولون: «نحن خير أمّة أخرجت للناس». يقولون: إن ّ الغرب هو سبب البلاء وهو أصل ما استقرّ فينا من بؤس ومن تخلّف...

أنا لست من هؤلاء. أنا لا أنتمي إلى هؤلاء. أنا أكره هؤلاء. على عكس التونسيين والعرب والأعراب، أنا أحبّ الغرب. أعشق ما فيه من فنون ومن علوم ومن عقل منير. في الغرب، هناك أمّة مزدهرة وتعليم ناهض. هناك قانون يسري ومساواة وأمن. في الغرب تطمئنّ النفوس. يحلو العيش... كلّ التونسيين اليوم من أهل الكفاءات وممّن ليس لهم سند يريدون الهجّ إلى الغرب. يسعون إليه. ها هم يلقون بأنفسهم في البحر، في التهلكة، للعيش مع الغرب الكافر...

  
انتهى، في بلدي، ذاك الغرب الرحب، المنير. انتهى ذاك الذي به كنّا نقتدي ومنه نستلهم وإليه نمشي دون عرقل. ضاعت الفرنسيّة ومفاتيح الولوج إلى الآخر المختلف. علا في تونس صوت القوميّة والشعبويّة. عصفت بنا العصبيّة وشدّنا التطرّف. في المساجد، في الفضاءات العامّة، في الإعلام، أصبح الكلّ للغرب عدوّا لدودا. أصبح الكلّ به يندّد. «دعك من الغرب وانظر في القرآن وفيه كلّ المعارف. انظر في السلف فهو النبراس وهو المنقذ»، تقول الدهماء والأيمّة والجهلة...

ازدادت الأبواب غلقا واشتدّ فينا التعصّب. ظهر الإرهاب وذاع صيت داعش. ها نحن نقتّل الناس عدوانا وظلما. ها نحن شياطين في الأرض منتشرة. نفجّر ناطحات السحاب بلا سبب والأصنام والمحطّات والجرائد. ها هو الشابّ التونسيّ الغرّ يسحل الناس عشرات في الشارع. ها هو الآخر في الكنيسة يذبح...

في السنوات الأخيرة، اضطرب العالم وتملّكه وجس. أصاب الشعوب خوف وريبة. عاد كلّ إلى نفسه ينظر. أصابت الناس كبريّاء وغلوّ. كلّ يدّعي أنّ فكره هو الأصوب وأنّ جنسه هو الأرقى وأنّ دينه هو الأحنف. أصبح الكلّ يرفض الكلّ. ها هي البلدان تغلق أبوابها. تحتمي. تزرع الأسلاك الشائكة. تنبي الأسوار العاليّة. تحفر الخنادق الغارقة... ظهرت في الأرض شعارات مقيتة: «تونس للتونسيين»، «أمريكا أوّلا»، «فرنسا للفرنسيين»...

انتهى العالم الذي أعرف. عالم جميل، فيه أخوّة وتآزر. عالم متفتّح، فيه بشر يحلم. انتهى ذاك العالم البهيّ. انتهت رحلاتي الصيفيّة. في ما مضى، كان العالم كلّه في راحتي. ملكا لي. أحبّه ويحبّني. كان العالم وطني. انتهى وطني...
عالمك اليوم يا مريم عالم مجنون فقد صوابه وأضاع بوصلته. في عالمك، بغضاء كثيرة وذبح وتفجير وأرواح تزهق. هل يمكن العيش في ظلّ إرهاب غادر؟ هل مع البغضاء يمكن العيش والسفر؟ لماذا انقلب العالم في زمن وجيز؟ ماذا تغيّر وما هو السبب؟ هناك ولا شكّ أسباب تشرح، تبيّن. هناك ولا شكّ بشر لهم في ما يجري في الأرض من قتل ومن ذبح مصالح...

من هم قوى الشرّ في بلاد العرب؟ قوى الشرّ هم أوّلا وأساسا أولائك الذين شدّهم جهل وتعصّب. لا يأتي بغضاء إلا من سكنته ظلمات ونعرة وآمن أنّه خير الخلق وهو الحقّ والطهر وسواه ضلالة ونجاسة. أصحاب الفعل المنكر، هم أولائك الذين لا يقبلون بالاختلاف وهمّهم رجم كلّ آخر مختلف... في ما أرى، نحن، الكثير منّا، يشرّع في الأرض الجهاد والإرهاب. فوق المنابر، أرى الأيمّة يؤجّجون الكراهيّة والعداوة وينفخون الأحقاد بين البشر. أهل الدين عندنا هم من يبرّر العنف ويأمر بقتل الملحدين والعلمانيين واليهود وكلّ الكفرة. أفلسنا نحن من أعطى لداعش وأخواتها نارا ووجودا؟ أفلسنا نحن من ألّب الشباب ودفع به إلى الإرهاب، إلى زهق الأنفس البريئة؟ أفلسنا نحن من قتّل النساء والأطفال وقطّع الرؤوس باسم الدين والمعتقد؟ ديار الغرب هي ديار حرب وعلى كلّ مسلم محاربة الكفرة، يؤكّد الأيمّة...

المشاركة في هذا المقال